“المونة الشتوية”.. مواسم الخير تثمر لتزين الموائد وتعيد الذكريات

في هذه الفترة المليئة بمواسم الخير التي تأتي من تراب الأرض وأشجارها، يتبادل الأردنيون هدايا (المونة)، مستمتعين بكل تفاصيلها الجميلة. فمن انتظار “عصر الزيتون” إلى تحضير المنتجات الغذائية المتنوعة من الشجرة المباركة وخيرات الأرض، مثل المربى والمخللات، تستحضر عائلات الكثير من الذكريات بحب وشغف.

خلال هذه الفترة، تتلقى رندا العديد من الهدايا، أو “الطعمة”، كما يطلق عليها باللهجة العامية، من والدتها وقريباتها، والتي تأتي من خيرات شجرة الزيتون تحديدا. تتنوع هذه الهدايا بين الزيتون المخلل “الرصيع”، وعبوات الزيت الصغيرة، وبرطمانات المربى بثمار التين والمشمش. تقول رندا إن هذه الهدايا هي الأجمل التي تنتظرها كل عام، وتتشوق لهذا الموسم الذي تعتبره الأنسب لتأمين البيت بالمونة اللازمة، خاصة مع اقتراب فصل الشتاء.

ولكون رندا لا تمتلك أشجار زيتون في حديقة بيتها، تحرص والدتها على تأمين “حصتها” من خيرات هذا الموسم كل عام. ومع مرور الوقت، تزداد الكمية ويضاف إليها العديد من الأصناف الأخرى من المنتجات. ما يزيد من سعادة رندا بهذه الهدايا هو أنها تأتي من مزرعة العائلة، حيث يتشارك الجميع في حضور موسم القطاف ومتابعة المراحل النهائية لإنتاج الزيت البلدي الجديد، بلونه ورائحته المميزة.
في هذه الفترة من كل عام، تحرص جميع البيوت على الاستعداد لتحضير مونة البيت. فهذه الفترة تحديدا تتضمن العديد من مواسم التحضير، من شجرة الزيتون إلى تحضير المكدوس، والمربى، وحفظ الفواكه الصيفية بتجفيفها أو بصنع المربى منها، إضافة إلى صنع “الملبن” من عصير العنب. كما تعد مطيبات طعام أخرى مثل السماق والفلفل وغيرها من المنتجات، لتأمين احتياجات البيت خلال العام.
تحرص أم مهند على تخزين كميات كبيرة من الزيتون، رغم زواج جميع أبنائها وعدم حاجتها إلى كميات كبيرة من المواد الغذائية، إلا أنها ما تزال تتبع هذا التقليد المفضل لديها، وتهتم بإهداء جزء منه لأبنائها وبعض الجيران. كما تتبرع بجزء منه لبعض العائلات المحتاجة، قائلة إن هذا يزيد “البركة” في كل موسم.
تقول أم مهند، البالغة من العمر سبعة وسبعين عاماً، إن الزمن قد تغير، ولم تعد ربات البيوت بحاجة لتخزين كميات كبيرة من المواد الغذائية كما في السابق. كانت هذه الفترة مليئة بالتفاصيل في كل بيوت الحي، حيث يشهد الجميع موسم قطف الزيتون والتحضير للعديد من المنتجات التي كانت ربات البيوت حريصات على إعدادها. وغالبا ما كانت “العونة” والمساعدة متاحة بين الجيران بسبب الكميات الكبيرة التي يتم تحضيرها استعدادا لفصل الشتاء.
تؤكد أم مهند أن ما يتم تخزينه يكفي لفترات طويلة، قد تمتد إلى فصل الشتاء والربيع وأحيانا بداية الصيف. وكل ما يحفظ هو إما من إنتاج مزروعاتهم أو مما يتم شراؤه من المزارعين المحيطين والتجار الذين يوفرون بعض المواد التموينية، لكن الاعتماد الأساسي كان دائماً على خيرات الأرض الطبيعية.
ورغم إقامتها خارج الأردن، لم تنس عبير شهاب شحن ما تستطيع من المونة إلى منزلها في إحدى الدول الأوروبية. بعد انتظار موسم قطاف الزيتون، حرصت على الحصول على المكدوس والمخللات والمربى المحضر بيدي والدتها، بالإضافة إلى السمن والجميد، لتستمتع بالنكهات الأصيلة في غربتها.
تقول عبير إن ما يتم تحضيره محليا يتميز بجودة عالية، خاصة أنه من صنع والدتها وبمشاركة أفراد الأسرة، مما يمنحه نكهة خاصة تذكرها بكل ما هو جميل في هذه الفترة المميزة من كل عام.
إلى ذلك، حرصت عبير على تخصيص جزء من هذه المنتجات البيتية لتوزيعها على عدد من المغتربين الذين لم تساعدهم ظروفهم على الحصول على مثل هذه المنتجات المحلية. وتعتبر هذه الهدايا من أجمل وأثمن ما يمكن أن يتلقوه، فهي تذكرهم بطفولتهم وبالمذاق الفريد من أيدي الأمهات.
يقول المختص والمدون في التراث الأردني نايف النوايسة “إن الإنسان في البيئة الشعبية يحتفظ بالمونة وطعامه غير المتكلف، ولا يحتاج إلى مواد غذائية مرتفعة الثمن”.
لذلك، يعتمد على الطبيعة من حوله ويحرص على تخزين بعض المواد التموينية الأساسية. في السابق، كان الناس يقومون بذلك بعد انتهاء موسم “بيدر القمح”، حيث يتم تخصيص جزء من المحصول لمونة البيت، وجزء آخر للبذار، بينما يخصص الجزء المتبقي لسداد الديون.
ووفق النوايسة، فإن هذه المونة كانت تخزن في الغالب لفصل الشتاء منذ عقود، لأن الشتاء طويل نسبيا، ولا يوجد خلاله موسم للزراعة، مما يجعل الأسرة بحاجة إلى تخزين كميات من الطعام أو مكونات تحضير الطعام. كما كان القمح سابقا هو العنصر الرئيسي على المائدة الريفية البسيطة.
لم يكن الناس يعتمدون على الأرز كغذاء رئيسي كما هو الحال اليوم؛ بل كان القمح هو الأساس ويستخدم في معظم الأطعمة البيتية، وفقا للنوايسة. إلى جانب ذلك، اعتمد الناس بشكل كبير على موسم الزيتون، حيث يتم استخراج الزيت وتخزين الزيتون “الرصيع” بكميات كبيرة. وكانت السيدات أيضا يحتفظن بالطماطم عن طريق تجفيفها ويصنعن القطين من ثمار التين، بالإضافة إلى تخزين السمن والجميد، لأنها مواد تمتد لفترات طويلة.
ويشير النوايسة إلى أن المواد الغذائية كانت قليلة في الماضي، وكان تخزينها متاحا للجميع، حيث كان الاعتماد على الحبوب والبقوليات هو الأبرز. ومع مرور الوقت، تم إضافة العديد من المنتجات الأخرى، وهو ما نلاحظه اليوم في معظم بيوت الأردنيين. ورغم توافر العديد من المنتجات، إلا أن الجميع ما يزال يحرص على تخزين الزيت والزيتون بشكل كبير، كونهما من المواد الغذائية الرئيسية في البيوت. لكن ما يلفت الانتباه هو عدم تخزين الطحين أو القمح، وذلك لأن المخابز متوفرة على مدار العام، ولا تحتاج ربات البيوت إلى “الخبز والعجن” إلا في حالات نادرة، تقتصر غالبا على الحلويات أو المعجنات.

تغريد السعايدة/ الغد

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة