قبل عدةِ أيام ، كان كَبيرنا قبلَ صغيرنا يقفُ على شرفةِ منزله، أو يصعدُ على سطحِ منزله ،أو حتى من حديقةِ منزله ينظرُ إلى الهلالِ ويردد تلكَ الأنشودة ” يا نورَ الهلال أقبل تعال؛ فالشوقُ طال والقلبُ سما، نحو السما مُترنماً، رمضانُ أنت للروحِ دواء”.
تمضي بنا الأيامُ وتتعاقبُ الأسابيع وتَتوالى الشُهور، ويقتربُ منا قُدوم شهرِ الخيرِ والبركة والرَحمات، ويعلو نداءُ المؤمنين ودُعاؤهم الخالد.
عادَ شهرُ رمضان المُبارك ولكن بنكهةِ ” الكُورونا ” ، هذهِ النكهة حَرمتنا من أبسطِ عَاداتنا في شَهرِ رمضانِ المُبارك ، وإذا كانَ رمضان أساساً يرمزُ إلى الجماعةِ فسيكونُ له وجهٌ غيرُ مألوفٍ هذا العام. اعتدنا كلَ عامٍ في رمضان أن نُصلي بالمساجدِ ونُقيم صلاةَ التراويح ، اعتدنا أنّ موائدَ رمضان تجمعُ الأحبابَ والأهلَ والأصدقاء في الخيمِ الرمضَانية والمقَاهي وفي المَنازل ، اعتدنا أنْ ننتظرَ المسحراتي ونسمعَ أصواتَ طبلهِ ونغمةَ صوتِه المُوسيقية التي تُنادي وتقول ” يا نايم وحد الدايم، قوموا على سحوركم اجى رمضان يزوركم”. حتى هذهِ أيضاً حُرمنا منها ، حتى زينةَ رَمضان التي كُنا نقفُ فيها كتفًا بكتف ونتَشارك ونتَساعد في تزينِ الأحياءِ والمناطِق والشَوارع لم نفعلْ ذلك ، اقتصرَ كُلٌ مِنا على تَزين منزلهِ فَقط ، هذه السنة نحنُ في حَسرةٍ وحزنٍ بسبب توقفِ كُل ذلك، شعرتُ لوهلةٍ أنني في حلم، لا بلْ حتى كابوس ، وأخذتُ أرفضُ ذلكَ في عقلي الباطني، وبالفِعل استقيظتُ منه وكان كابوسًا فظيعًا ، فظيعًا للغاية.
نظرتُ حولي وعلى الفَور شربتُ شربةَ ماء ، أحسستُ وكأن نَفسي قد قُطع ، سارعتُ ونظرتُ من نافِذتي ورأيتُ الناسَ بمختلفِ أشكَالهم وأعرَاقهم وأجنَاسهم سوءاً كانوا كِبارًا بالسن وشَباب أو حتى صِغار يُعبرون عن “فَرحتهم وسَعادتهم بمقدمِ شهرُ الصيام، باقتِناء “الفوانيس” لِلأطفال، والقنادِيل مُختلفة الألوانِ والأشكَال، إضِافة إلى ما يُعرف بـ “هلالِ رمضان” الذي هو عبارة عن شريط كهربائي على شكلِ هلالٍ تتوسطهُ نجمة تُزين بها الشَوارع ومداخِل وشُرفات المَنازل، التي تتحولُ طيلةَ ليالي رمضان إلى ما يُشبهُ لوحةً بانوراميةً جميلة مُتعددة الألوان وزاهيةَ الأطياف”.
فسارعتُ على الفورِ وأخذتُ أُشاركهم في تزيين شَوارع الحي وقَلبي تملأهُ الفرحةُ والبَهجة ، فسمعتُ جَاري يقولُ لي وهو يبتَسم ” أرني وجهكَ يَضحك ” فقلتُ لهُ على الفَور ” وبدوني كِمامة ” وتعالتْ أصواتُ ضَحكاتنا مَمزوجةً بالفرحِ والشَوق إلى ” أيامِ هذا الشَهر الفَضيل ” التي حَرمتنا مِنه الكورونا ، ولكنْ انتصَرنا عَليها وعُدنا إلى عادَاتنا الجَميلةَ في رمَضان “والله لا يقطعها من عادة” .
ونحنُ مُنشغلين في تزيين زِينةِ الشهرِ الفَضيل ، وإذ نَسمعُ على مُكبراتِ الصَوت في المَساجد أن غداً هو أولُ أيامِ الشَهر الفَضيل ، فأصبحْنا نُنجزُ بشكلٍ أكبَر وعلى عَجل قُمنا بتزيين ” زينةِ رمضَان “حتى لا تَفوتنا أولُ صلاةِ تراويحٍ بعدَ ذلكَ الوباء” الكورونا ” الله لا يعِيده ، يا لهُ من مَنظرٍ جميلٍ يَسرُ القلبَ والخَاطر ، المَساجد أبوابُها مفتوحةً أمامَ الجَميع ، والجَميعُ يدخلون بِكل قوةٍ ومَحبة وشَوق ، يدخُلونها قُلوبهم مُطمئنة ، يُسارعون بِالدخولِ إليها وكَأنها أبوابُ الجَنة قد فُتحت لَهم ، والجَميعُ بلا استِثناء بعدَ دُخولهم سَجدوا لله الواحدِ القَهار الرَحيم الغَفار ، سَجدةَ شُكر ، الذي صَرف عنا ذلكَ الوبَاء، وسَمحَ لنا بالصَلاة في المَساجد بعدَ انقِطاع ، ربي لكَ الحمدُ والشُكر .
وعِندما انتهينا من صَلاة التَراويح ، قَررتُ أن أقُومَ بزياراتٍ للتَهنئة بحُلول هذا الشَهر. قدْ تُذهلون وتقُولُون في أنفُسكم “في ظلِ التَطور التكنولوجي!” ، نعم لنْ أكتَفي بالرسَائلِ القَصِيرة عَبر واتساب أو وسَائل التَواصل الاجتِماعي” بلْ على الفَور قمتُ بِزيارات التَهنئه ، واقتَربت من الناسِ أكثرَ وأكثَر وصَافحتُهم وقمتُ باحتِضانِهم بكلِ قُوة وكأنَني أريدُ أن أكسرَ كُل الحَواجز التي وضَعتها تِلك الآفة اللّعينة ، عَدم المُصافحة والتَقبِيل، عدمَ التَواجد الدائِم بالتَجمعات والجُلوس بِجانبِ الآخَر؛ كُلها سُلوكيات اعتادَ الناسُ على مُمارستها بشكلٍ يومي ومُستمر” ، ومنْ ثُم خرجتُ من بُيوتهم خاتماً حديثي” حمدًا لله الواحد الأحد أن شَفانا الله من تلكَ الأزمة وأخرجنا سَالمين من تلكَ المحنة”.
ومن ثُم نظرتُ إلى هاتِفي يُوجد عليهِ رِسالة ” واتساب” كُتب فيها ” لا تنسى أغراضَ السحور ، غداً أولُ أيامِ رمضان ، كل سنة وأنت سالم ” اعتلتْ وجّهي ابتسامةٌ جميلة وسارعتُ على الفَور للإتيان بأغراضِ السَحور ، كانتْ الشوراعُ مُزدحمةً للغاية، أحسستُ لوهلةٍ أن كُل المَدينة لا بل العالمَ قدْ خَرجَ إلى الأسواقِ للتبضُع لرمَضان ، ولن أُلقي الّلوم عليهم أو حتى أضجر من ازدحامِ السَيارات بلْ على العكسِ سوفَ أدعو “الله لا يقطعها من عادة ” .
وأنا أنظرُ إلى السياراتِ كيفَ نحنُ بجانبِ بعْضنا البَعض ، وكيفَ تملأُ الفَرحةَ قُلوبنا وتَظهر على وجُوهِنا ، كَم أننا مُحاربون عُظماء ، لأنهُ بالنِسبة لنا منْ شَهد عَصر الكُورونا فهو مُحارب ، ومُحاربٌ عَظيمٌ أيضاً ، وإذ نَرى شباب يتمازحُون بينَ بعضِهم البَعض بينَ الشَوراع ، لفتَ مَسمَعي جُملة شابٍ لصَديقه عِندما قالَ له ” بدك تروح على البيت هلأ ، شكلك بعدك متعود على كورونا وأجواء الحظر فيها” وأصبحَ يَضحك ، وأصبَحنا جَميعاً نضحَك مَعه فنظَر صَديقهُ لنا وأصبحَ يضحكُ ويقولُ لصَديقه ” كورونا خلصت” ، فأجابهُ صَديقه ” احكي لحالك بتحكي إلي!؟” فأصبحنا نَضحك بِزيادةٍ وبقهقهةٍ أيضاً .
وصلتُ المنزِل وكانتْ العائِلة مُجتَمعة ، يا إلهي كَم أن مَنظر لمَة العائِلة شيءٌ جَميل، ويسرُ القَلب والخَاطر ، لا أشعرُ أنني بخيرٍ إلا بعدَ أن أجتَمع مَع أهلِي وأصدِقائي ، مَزيجٌ من الإحْساس بالأمَان والسَكينة والرَاحَة وأنا بينَ تَجمعٍ عَائلي مَليءٍ بالدِفء والمَحبة ، أولُ ليلةٍ في رَمضان وأولُ سَحور لنا والعَائلة جَميعها مُقتربةً منْ بَعضها البَعض، يَجلسُون كلٌ مِنهم بِجانب الآخر، هذهِ الجَلسات التي تَكون بِعنوان “الجَلسات الرَمضانية اللَيلِية”ويتَبادلُون أطرافَ الحَديث، ويَتناولُون الطعام والمَشرُوبات، هذهِ الجلسات التي قدْ تستمرُ في كَثيرٍ منَ الأحيانِ حتى وقتٍ مُتأخرٍ من الليلِ وقبلَ الفَجر . وأيضاً لا يُمكن أنْ نَنسى العَادة الرَمضَانية الجَمِيلة “والله لا يقطعها من عادة ” دعاءُ والِدي عنْ شهرِ رَمضان كُل أولِ سَحورٍ رَمَضاني ألا وهُو ” في أولِ ليلة منْ رمضان اللهُم باركْ لنا فيهِ وارزُقنا التوبةَ النصُوحة وأعِنا فيهِ على ذكركَ وشُكركَ وحُسن عِبادتك. ما أفسدته شُهور العام في أرواحنا المُثقلة، تُصلحه أيامُ رمضان بإذنِ الله”.
فَرفعنا أيدِينا إلى السماءِ عالياً ورَددنا جَميعاً ” آمين” وإذ سَمعنا صوتَ عَطسه ، صُدمنا ، فاحتَضنا أخي وأصبَحنا نضحكُ ، ومنْ ثُم نظرتْ والدَتي لنا وقالتْ ” لولا الضد ما ذُقنا طعمَ الضد ” .
وأصبَحنا جَميعاً نُغني ” مرحبْ يا هلال ، أهلاً أهلاً كيفَ الحال؟ ” .
كُورونا كابوسُها سَينتهي لا تَقلق ، فكّر دائماً أنّ دوامَ الحالِ من المُحال.
وكنْ على دِرايةٍ كامِلة بأنَ الأوقات العَصيبة ما هِي إلا أوقاتٌ مُؤقتة، معَ الأيامِ سَتزول وستَستعيدَ بعدَ زَوالها سَعادتك المَفقُودة.
التعليقات مغلقة.