آفاقُ التهدئةِ وفرصُ وقفِ إطلاقِ النارِ // د. مصطفى يوسف اللداوي
لم تتوقف التكهنات خلال الساعات القليلة الماضية وما زالت، حول احتمالات عقد هدنة مع العدو الصهيوني لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، رغم تصاعد العمليات العسكرية العدوانية الإسرائيلية وكثافتها، حيث لم تتوقف جرائم القتل والتدمير والترويع التي تقوم بها طائراته الحربية المقاتلة، وتعززها دباباته المتمركزة شرق القطاع، وقطعه البحرية العديدة التي تحاصر شواطئه، وتقصفه بعنفٍ شديدٍ من قبل البحر الممتد غرباً من شمال القطاع حتى جنوبه، الأمر الذي فاقم من معاناة السكان، وتسبب في تدمير مئات المباني، وتخريب البنية التحتية للقطاع، التي يتعمد العدو حرثها وقلب عاليها سافلها، وتخريب خطوط الهاتف والكهرباء، وقصف الشوارع والطرقات وقطع الاتصال بين مناطق القطاع.
في الوقت نفسه لم تتوقف فصائل المقاومة الفلسطينية عن الرد والقصف الشديد والبعيد، المتواصل الكثيف، رداً على الغارات الإسرائيلية، وتأكيداً على سياسة الرد بالمثل، وتثبيت معادلة القصف بالقصف، والتدمير بالتدمير، والهدم بالهدم، والقتل بالقتل، مع الإشارة الدائمة إلى “فإن عدتم عدنا وإن زدتم زدنا”، وهو الأمر الذي ثبتته المقاومة بقوةٍ رغم شدة القصف الإسرائيلي، ومحاولة تدمير قدرات المقاومة، ومنعها من مواصلة القصف وتهديد المدن الإسرائيلية القريبة والبعيدة، ودفعها إلى التراجع والاستسلام، أو إلى الانكفاء وتخفيف وتيرة القصف وتقليل عدد الصواريخ، بما يشير إلى ضعفها وفقدانها لقدراتها، أو خسارتها لمخزونها.
لكن المقاومة الفلسطينية أفشلت المخططات الإسرائيلية، وتصر على تثبيت معادلات رادعة، وفرض قواعد جديدة للصراع، تختلف كلياً عما كانت، ولا تتوافق عما يريدها العدو ويعتقد بها، فالمقاومة الفلسطينية التي انطلقت صواريخها من غزة مساء يوم العاشر من مايو الجاري، كانت عينها على القدس، وكانت نصرتها للأقصى، وهبتها لسكان حي الشيخ جراح، ولم يكن همها صد العدوان عن قطاع غزة، وهو ما لم يكن قد بدأ فعلاً، وإنما بدأته المقاومة بقصفها مدينة القدس، بعد أن أصم العدو آذانه عن التحذيرات التي أطلقتها المقاومة، واستخف بتهديداتها وظن أنها غير قادرة على تنفيذها.
لهذا فإن آفاق الهدنة المحتملة، التي تسعى المقاومة إلى فرضها، تقوم أساساً على أصل المشكلة وهي القدس، فلا هدنة تتجاهلها، ولا وقف لإطلاق النار لا يشملها، فإما أن يتراجع العدو عن سياسته التي اعتمدها تجاه المقدسيين في المدينة وأحيائها، وتجاه المصلين في المسجد الأقصى ورحابه، ويكف عن اعتداءاته واستفزازاته اليومية بحق الفلسطينيين، وإما أن تستمر المعركة ويتواصل القتال، ويكتوي المستوطنون بصليات الصواريخ وحمم القذائف، أو يختبئون في البيوت المحصنة والملاجئ، إذ لن تقبل المقاومة من الحرب بتدمير قطاعها، وعودة الاحتلال إلى سابق سياساته وممارساته العدوانية.
يدرك العدو شروط المقاومة ويفهم طبيعتها، ويعرف أنها ماضية في شروطها، ومصرة على مواقفها، وأنها لن تتراجع عما أعلنت عنه، ولن تقبل بدونها، ولهذا فهو يحاول عبر مختلف الوسطاء الذين يطالبونه بالقبول بوقف إطلاق النار، أن يلتزم أمامها فقط من طرفٍ واحدٍ، وألا يتعهد أمام المقاومة بشيء، ليبقى حراً مطلق اليدين قادراً على الرد متى يشاء، ولئلا يشعر مستوطنوه أنه هزم وخسر، وأنه قدم تنازلاتٍ وتراجع، وأن حماس والمقاومة قد فرضت شروط المنتصرين عليه، لهذا فهو يفضل وقفاً لإطلاق النار من طرفٍ واحدٍ.
ربما خان العدو تفكيره، وأضله عقله، وسولت له نفسه أنه يستطيع أن يضرب المقاومة متى يشاء، وأن المقاومة ستبقى مكتوفة اليدين عاجزة على الرد والثأر والانتقام، وما علم أن المقاومة التي تقدمت فإنها لن تتراجع، والتي ثبتت قواعد جديدة للصراع فإنها لن تنقلب عليها، وعليه فإن فكر العدو بالقصف والعدوان، ظناً منه أنه لا يخرق بذلك الهدنة، فإن المقاومة ستعامله بالمثل تماماً، وستقول له فعلاً لا قولاً أنها تلتزم الرد عليه كلما أجرم، ومعاقبته كلما أخطأ، والنيل منه دائماً.
الهدنة قادمةٌ لا محالة، وستوقع خلال الساعات القادمة، رغم أنف العدو الذي يسعى لها، ولكنها ستوقع بشروط المقاومة وتوقيتها، ونتيجةً لصمودها وثباتها واستمرار ردها وانتقامها، ولا يجد الوسطاء غير ثني العدو والضغط عليه، ومحاولة إقناعه أن الظرف قد تغير، وأن المعايير قد تبدلت، وأن قواعد اللعبة السياسية ومفاهيم الصراع في المنطقة لم تعد محكومة إلى العقل الإسرائيلي فقط، رغم أن أغلب الوسطاء منحازون إلى العدو ومتعاونون معه، لكن المقاومة التي ثبتت بالدم والنار معادلاتها، تأبى أن تقوض ما عمرت، وأن تهدم ما بنت، وعما قليل سيأتيكم الخبر، وستكون الهدنة، التي تفرضها المقاومة بقوتها وصمودها، ويثبتها الشعب بصبره وثباته.
بيروت
التعليقات مغلقة.