أربع دقائق// سعيد ذياب سليم
هل حدث وأن بدأ حارس الليل “نبطشيته” مبكرا؟ وقرر أن يفتح صنبور العتمة قبل وقت مناوبته ولو بأربع دقائق؟ وأن يسمح لأمواج العتمة أن تتدفق في الشوارع فتأخذ الكائنات النهارية على غفلة و تغرقها في بحر الليل!
هل حدث و أن أُسدلت ستارة الليل السوداء على الأشياء فأطفأت الضوء الأخير من النهار مذهولا؟
أم أن حارس الشمس يقودها في مسارها النهاري المعتاد لا يُغفل دقيقة من دقائق النهار تتسرب من بين أنامله فكيف بأربع دقائق! ونحن في عصر التكنولوجيا الرقمية وكل منا -وحارس الشمس أيضا-يحمل على معصمه ساعة و في جيبه هاتفا ذكيا و رنين المنبهات و أبواق الساعات تصنع حولنا جوقة موسيقية كلما لوح “مايسترو” الوقت بيديه !
قد يحدث ذلك في عالم القصص ، ذلك العالم له قوانينه الخاصة !
أربع دقائق هي الزمن الذي يفصل بين خط طول وآخر لتكتمل رحلة النهار والليل أربعا و عشرين ساعة.
قبل أكثر من مئة و خمسين سنة كتب الروائي الفرنسي ” جول فيرن ” مستفيدا من هذه الفكرة روايته “حول العالم في ثمانين يوما” والتي تروي قصة المغامرة التي خرج فيها “فيليس فوغ” في رحلة حول العالم ، برفقة تابعه “باسيبارتوت” للفوز برهان قيمته 20000£ إن نجح في الدوران حول الكرة الأرضية في ثمانين يوما، وبعد مغامرات مثيرة في الدول التي مرت بها المجموعة-فقد بدأت الرحلة باثنين وانتهت بأربع- التقت فيها الحضارة الغربية والشرقية وعُرضت فيها عادات غريبة، استقلت فيها المجموعة قطارات و سفن بخارية من لندن باتجاه الشمس كلما قطع أحد خطوط الطول اكتسب أربع دقائق وكان في نهاية حصاده لخطوط الطول أن فاز بأربع و عشرين ساعة جعلت منه فائزا بالرهان في الوقت الذي ظن فيه أنه خاسرا. ترى كم يحتاج المرء ليدور حول العالم اليوم في العصر الذي تقدمت فيه وسائل النقل والطرق الدولية برا و بحرا و جوا والقانون الذي يحفظ حرية الإنسان في التنقل؟ أم أن الإنسان له تعريفا خاصا اليوم؟
كل منا له قصة خاصة تميزه عن غيره، هذا هو رأي طبيب الأعصاب “أوليفر ساكس” حيث قال(يمكن القول أن كل واحد منا يبني ويعيش قصة، وأن هذه القصة هي نحن، وهوياتنا.) ذكر ذلك في كتابه “الرجل الذي حسب زوجته قبعة”، فقد اعتبر الباحث أن التصور الذاتي والسرد هو العمود الرئيسي للهوية -الذات- سليما كان صاحبها أو مريضا. في كتابه ذاك يروي قصصا عن مرضاه ، وصف حالة أحدهم التي تمثلت بمشكلة بصرية طريفة و مؤلمة لمعلم في كلية لتعليم الموسيقى كان لا يميز طلبته بوجوههم ولكن إذا تحدث أحدهم عرفه، هذا الرجل نسج العالم كقطعة موسيقية يدندن بها في كل نواحي الحياة فإذا فوجئ بشيء أخرجه عن السياق ارتبك، كان يجلس بهدوء بجانب النافذة، متنبها، ومستمعاً لا ناظراً. قال: “زحمة السير، أصوات الشارع، القطارات البعيدة تشكل معاً سيمفونية من نوع ما، أليس كذلك؟ و في نهاية زيارته لم يعرف حذاءه بل ظن أن ذاك قدمه! و عند مغادرة العيادة أمسك رأس زوجته ظانا أنه القبعة يريد أن يضعها على رأسه.
تعالوا نكلف أنفسنا بمهمة نعرف فيها ذواتنا “صف من أنت في أربع دقائق”، هل ستبلغ درجة من الإثارة والتشويق ما يجعلها تصمد أمام القصص التي نقرأها في عمود غزة اليومي؟
تعالوا أصدقائي أن نذهب إلى المستقبل في مهمة أخرى و نحط في محطة “اليوم التالي للحرب” لمدة أربع دقائق ماذا تعتقد أن ترى؟
لاشك أن الدمار سيسيطر على المنظر فسيحتاج من البشرية عقدا أو أكثر لإعادة البناء! ستكون هناك شجيرات بائسة غنية بالكيماويات من أثر المعركة، والجو ملوثا و مشبعا بأنواع جراثيم الأمراض والفيروسات التي لا تقل شراسة عن فيروس هل”كورونا” ، هل ترى بشرا في الصورة؟ ربما سترى أحدهم يخرج من مغارة أو حفرة تحت الردم يرافقه كلبا -آليا ربما- يقف على شاطئ البحر ينظر في الأفق المحروق ، هل ترى شيئا آخر ؟ أم أن الوقت لم يسعفك؟ لا تطلب أكثر من أربع دقائق للذهاب في هذه الرحلة و تعود محافظا على قواك العقلية.
فهي كل ما تبقى أمام “مادونا” لإنقاذ العالم في أغنيتها “4 دقائق” .
التعليقات مغلقة.