الاحتلال يكثف حرب الإبادة على جباليا.. قصة المخيم المقاوم

“لن يسقط مخيم جباليا..”، كثيرة هي العبارات التي سطرها الفلسطينيون الصامدون في مخيم جباليا للاجئين على جدران المنازل التي دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية على مدار عام من الإبادة، يصرون على البقاء رافضين النزوح تحت نار عملية عسكرية ثالثة تتواصل بلا هوادة منذ أيام.

 

 تنهمر قذائف المدفعية من جهات المخيم كافة، يكُر سكان جباليا بما استطاعوا أن يحملوا من أمتعة أو قل بقايا متاع فقدوا معظمه على مدار عام من حرب الإبادة، بحثاً عن أمان غير منظور في أي من مراكز الإيواء.

ووسط كل هذا الألم الذي يتنفسه سكان المخيم الصامد كما الهواء المشبع ببارود الصواريخ والقذائف على البقاء رافضين الخضوع لأوامر الإخلاء القسري، والتي يرون فيها محاولة لتهجيرهم تحت النار، مؤكدين أن ما فشل به الاحتلال في ذروة معركة طوفان الأقصى لن ينجح به في نهايتها.

ويصر يوسف أبو قمر على البقاء في شمال قطاع غزة رافضاً مغادرة المخيم، ويقيم حاليا في خيمة نصبها بأحد مراكز الإيواء. ويقول إنه لن يغادر جباليا حتى وإن كلفه ذلك حياته، رغم فقدانه منزله والعشرات من أقاربه خلال حرب الإبادة الجماعية المتواصلة على القطاع.

ويمكث أبو قمر داخل خيمة النزوح برفقة زوجته وأبنائه في إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”، إلى جانب المئات من أبناء مخيم جباليا الرافضين لمغادرته، رغم المخاطر المحدقة بأرواحهم في ظل الحصار الإسرائيلي للمخيم.

ويضيف أن الاحتلال يحاول بالقوة النارية دفعهم للهجرة والنزوح إلى جنوب قطاع غزة بعد عام من الصمود في الشمال، “رغم الدمار الكبير الذي حل بالمخيم وخسارتنا منازلنا وسبل عيشنا، والمجاعة التي عشنها لأشهر وتتكرر اليوم”.

 

ويرى أبو قمر في دعوات جيش الاحتلال للنزوح القسري، بأنها محاولة لإيهام سكان المخيم بوجود مناطق آمنة في جنوب القطاع، غير أن الواقع عكس ذلك تماما فقد قصفوا خيام النازحين في مواصي خان يونس، ودير البلح، واجتاحوا رفح التي ادعوا أنها “منطقة إنسانية آمنة” بداية الحرب.

ويستدرك بالقول: “إذا لابد من الموت فلنمت في المخيم الذي لطالما احتضننا وعشنا فيه وعاش فينا.. إلى أين نذهب وسط هذا الخراب في كل مكان.. ما رفضناه في بداية الحرب لن نقبله الآن”.

وفي السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أعلن جيش الاحتلال بدء عملية عسكرية برية في جباليا، بذريعة منع المقاومة الفلسطينية من استعادة قوتها في المنطقة، وذلك بعد ساعات من بدء هجمة شرسة على المناطق الشرقية والغربية لشمالي القطاع منها جباليا هي الأعنف منذ مايو/أيار الماضي.

 

وهذه العملية البرية الثالثة التي ينفذها جيش الاحتلال في مخيم جباليا شمالي القطاع منذ بداية حرب الإبادة الجماعية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث استشهد وأصيب المئات في قصف جوي ومدفعي وإطلاق نار داخل المخيم، إضافة لتدميره وحرقه مئات المنازل.

 

ومع إطلاق العملية العسكرية الجديدة ضد جباليا بدأ جيش الاحتلال بتهجير الفلسطينيين من 3 بلدات شمال قطاع غزة، في خطوة تبدو تطبيقا غير معلن لما سُمي إعلاميا “خطة الجنرالات” التي تهدف لتفريغ شمال القطاع وفرض حصار مطبق عليه تمهيدا للاستيطان فيه.

وكشف عن “خطة الجنرالات” مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، وتقضي بتهجير جميع الفلسطينيين من شمال القطاع ضمن مهلة تستمر أسبوعا قبل فرض حصار على المنطقة ووضع المقاتلين الفلسطينيين فيها بين خيار الموت أو الاستسلام.

 

ولم تعلن الحكومة الإسرائيلية تبني الخطة، لكن هيئة البث (رسمية) ذكرت في سبتمبر/أيلول أن المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت) يبحث هذه الخطة.

ويشاطر غازي الكفارنة ابن مخيمه الإصرار على البقاء في منزله رغم تدمير أجزاء منه، ويرى أن مغادرة المخيم لن توفر له الأمان أو المساعدة، مشيرا إلى النزوح لن يحل الأزمة بل سيزيد من معاناتهم.

ويقول إن الخروج من شمال قطاع غزة إلى جنوبه يعني الموت وهو ليس بالضرورة بالصواريخ. فمنذ بداية الحرب شهدنا على أطياف متعددة لأشكال الموت بالأمراض والأوبئة وتلوث المياه، مؤكداً أنه لا يثق في مسارات النزوح “غير الآمنة” التي حددها جيش الاحتلال، عدا عن أن الجنوب غير مهيئ لاستقبال أعداد جديدة من النازحين.

ويضيف الكفارنة: “صحيح أننا نعاني من شبه مجاعة نتيجة النقص الكبير في المواد الغذائية وعدم توفر الخضراوات وإن توفرت أسعارها فلكية، لكن الذهاب إلى الجنوب يعني حياة خيام لا نعرف إلى أين ينتهي الحال بها داخلها، عدا عن أن الجنوب غير مهيئ لاستقبال نازحين جدد”.

ويعتقد أن جيش الاحتلال يعتمد على مبدأ الضغط العسكري على أهالي مخيم جباليا بشكل عام لدفعهم للنزوح بالقوة تحت كثافة القوة النارية، مشيراً إلى أن هذه السياسة أثبتت فشلها والدليل هو إصرار الناس على عدم مغادرة منازلهم إلى مناطق أخرى، رغم اقتراب آليات جيش الاحتلال منهم بشكل واضح.

ويتمسك الآلاف من أهالي شمال قطاع غزة بخيار البقاء بمنازلهم وعدم النزوح للمناطق الجنوبية، منذ 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حينما أصدر جيش الاحتلال أول أمر إخلاء قسري لهم.

 

ومن أصل 1.2 مليون نسمة كانوا يقطنون محافظتي غزة والشمال يوجد حاليا نحو 700 ألف نسمة رفضوا النزوح إلى جنوب القطاع، وفق بيانات رسمية فلسطينية.

ولطالما مثّل مخيم جباليا الكف الذي يواجه المخرز الإسرائيلي منذ سنوات الانتفاضة الأولى فمنه اندلعت شرارتها التي اشعلت الأراضي الفلسطينية كافة، ومنه انتشرت الشعارات والرسومات التي ملأت جدران المخيم وعبرت عن حالته الثورية وكان لها دور في التعبئة السياسية.

وفي انتفاضة الأقصى عام 2000، شهد مخيم جباليا معارك ضارية، منها معركة “أيام الغضب” عام 2004، حاول فيها العدو اقتحام المخيم، لكنّه عاد يجرّ أدراج الهزيمة بعد قتال دام 17 يوماً. وهي المعركة التي ظهر فيها الشيخ نزار يقود المقاتلين ويثبّتهم في الصفوف الأولى، وفيها قال مقولته التاريخية: “لن يدخلوا معسكرنا، يعني لن يدخلوا معسكرنا”.

اليوم وبعد عام على طوفان الأقصى ومحاولات كسر المقاومة في جباليا، يعود المخيم الواقع على مساحة كليو متر مربع ونصف، كالعنقاء من رماد العمليات العسكرية ليقاوم عملية عسكرية إسرائيلية ثالثة، في محاولة لنزعه من ساكنيه.

 

ففي هجومها البري الأول عليه في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023 شنت قوات الاحتلال آلاف الغارات وفتحت أبواب جحيم “النيران التمهيدية” على المعسكر العنيد، الذي رفض معظم سكانه مغادرته.

وفي 12 مايو/ أيار 2024 شن جيش الاحتلال هجوماً عنيفاً على جباليا من عدة محاور، وأرسل ثلاث كتائب مدرعة لتنفيذ المهمة التي لطالما فشل فيها، ظاناً أنه بعد كل هذه الأشهر من السحق والتجويع سيركع المعسكر وسيرفع الراية البيضاء، لكن ما حصل هو أن جباليا العنيدة أثبتت مجدداً أنها الجبهة الأكثر قوة وصموداً في هذه المعركة، حتى أن أسراب طائرات الهيلوكوبتر التي أتت لإخلاء الجنود القتلى والجرحى لم تفارق سماء المعسكر طول تلك الأيام.

هذا الصمود الأسطوري للمخيم لم يبنى على بحر من رمال، فمنذ نشأته عام 1948 من اللاجئين الذين لجؤوا إليه بعد النكبة، شكّل منطقة تمركز للفدائيين الذين التحقوا بمعسكرات التدريب التابعة لـ”جيش التحرير الفلسطيني” في ستينيات القرن الماضي، إذ سارع المئات من شبان مخيم جباليا للانضمام إليه، وشاركوا في عمليات فدائية داخل خط الهدنة ومعارك حرب حزيران عام 1967، كما يؤكد الباحث في الشأن الفلسطيني سعيد زياد.

ولم تثن هؤلاء الفدائيين الهزيمة العربية والاحتلال فلسطين كاملة وجزء كبير من الأراضي العربية عن المقاومة والانضمام إلى التشكيلات الفدائية التي أرقت العدو وأوقعت فيه الخسائر الجسيمة. وكانت أوج هذه العمليات بين عامي 1968 و1972، إذ قام وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون، بعمليات استهداف كبيرة للفدائيين، وهدم أعداد كبيرة من منازل المخيم، في محاولة منه لوأد المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وذلك عبر عملية اجتياح واسعة، حاول العدو فيها تجريف المخيم وتهجير أهله عبر عملية واسعة استمرت لأربعة أعوام، انتهت بالفشل الذريع.

واليوم يعيد المخيم العنيد صياغة ذات المقاومة التي عرف بها طيلة العقود الماضية ليكتب ورثة السلاح كما دوماً “عاش المُخيم.. وعاشت روح جباليا التي لا تُهزم”. (المركز الفلسطيني للإعلام+سوشال ميديا)

وكالات

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة