الحنين لأكلات الجدات الشعبية يزيد الإقبال على المطاعم التراثية

بحثا عن المذاق الأصيل و”نفس” الأمهات والجدات ونكهة طعامهن الذي ما يزال يستشعر لذته الكثيرون ممن حرموا من تلك الأكلات التقليدية التي اعتادوا تناولها من جداتهم وأمهاتهم، يلجأ الكثير من المواطنين للبحث عن مطابخ إنتاجية متخصصة بتحضير الأكلات الشعبية.

في كل مرة، يأخذ الحنين للأكلات الشعبية والتقليدية الستيني خالد التميمي وعائلته بالتوجه لإحدى المحافظات القريبة من العاصمة عمان، ليستمتع بمذاق تلك الأكلات التي تحضرها ربات بيوت أخذن على عاتقهن إحياء هذه الأكلات، والحفاظ عليها من خلال تجهيزها بمطابخهن الإنتاجية أو مطاعمهن الصغيرة.

في بيت أم أحمد في عجلون، يحرص التميمي وعائلته على تناول الأطباق التقليدية والأكلات الشعبية التي افتقدوها منذ سنوات طويلة بعد وفاة والدته وجدته، وفق قوله، لافتا إلى أنه جرب الكثير من المطاعم باحثا عن تلك النكهة التي ما تزال “لذتها تحت لساني”.
ويقول التميمي “في كل موسم أذهب لمطعم أم أحمد لتناول المكمورة، المفتول، الملفوف والكعاكيل”، لافتا إلى أن ميزة تلك الأطباق أنها معدة بـ”نفس” الأمهات.
بعيدا عن “فزلكات” التقديم والمبالغة في تصميم المكان والتعديل على الأطباق، تبحث صابرين خيري عن الوصفات العشبية لتناولها في إجازتها، بحسب وصفها، مستذكرة أيام الطفولة؛ حيث كانت تلتم العائلة بأكملها في الشتاء حول طنجرة المكمورة التي كانت تطبخها والدتها على صوبة الكاز.
سعاد مبيضين وزميلاتها في العمل عدن بذاكرتهن إلى تلك الأيام التي كن يقضين فيها عطلة نهاية الأسبوع في بيت الأجداد، يتناولن الأكلات التراثية التي كانت تلتم حولها جميع أفراد العائلة والأعمام والأخوال.
تستذكر مبيضين تلك الروائح والنكهات والغصة في قلبها شوقا لتلك الأيام التي مضت ولم تعد مجددا، وفق وصفها، لافتة إلى أنها أصبحت تتناول هذه الأكلات الشعبية من خلال طلبها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد رحلة بحث عمن يجيد “طبيخ الأمهات”.
وفي تفاصيل حديثها، تحرص مبيضين على اختيار الطبق التراثي الذي ترغب بتناوله من المحافظة المشهور بها، معللة ذلك، لإتقان النساء بأطباق مناطقهن. “المكمورة لا يمكن أن تؤكل إلا من نساء الشمال، والرشوف لازم من السلط”، متابعة أن المطابخ الإنتاجية على مواقع التواصل الاجتماعي سهلت كثيرا، ومنحت الكثيرين الفرصة لاستعادة الأيام الخوالي.
“ريحة طبيخ أمي”، بمشاعر فائضة وصفت مريم علي رائحة الطعام في أحد المطاعم التراثية في مدينة السلط عندما دخلت إليه، لافتة إلى أن نكهة المكان كله أعادت لذاكرتها رائحة مطبخ والدتها عند عودتها من المدرسة.
لا يمكن أن يمر يوم الجمعة دون أن تذهب مريم برفقة الأهل والأصدقاء لتناول الأكلات الشعبية في المطاعم الشعبية في مدينة السلط وتمر إلى وادي السلط، لتشتري “الحوايج” والسمن البلدي التي اعتادت جدتها على تحضيرها في الماضي.
ميسر الحياري صاحبة أحد المطاعم الشعبية في مدينة السلط، تقدم أطباقا شعبية وطبخات وموائد إفطار بنكهة الأمهات والجدات، كما يصف زوارها، حيث تستقبلهم في منزلها الذي أصبح جزء منه مطعما، يقدم الرشوف السلطي والمكمورة الإربداوية وكذلك المسخن الفلسطيني والمفتول وورق العنب وقلاية البندورة وحتى المكدوس واللبنة البلدية وغيرها من الأطباق التي غابت عن السفرة مع غياب الجدات والأمهات.
وتلفت الحياري إلى الإقبال الكبير على الأكلات الشعبية والتراثية، فلا يمضي أسبوع دون أن يأتي زوار من محافظات المملكة كافة لتناول الأكلات الشعبية.
وأكثر ما يلامس قلب الحياري وصف الضيوف لطبخاتها بأنها “كطبيخ أمهاتنا”، فإلى جانب المذاق الطيب، أصبح التوجه إلى مطعم الحياري “ملاذا” لكل من اشتاق لوالدته وجدته وزمن الطيبين المليء بالخير والبركة.
الاستشاري الأسري مفيد سرحان، بدوره، يشير إلى أن لكل مجتمع عاداته وتقاليده التي يعتز بها ويعمل على توارثها من الأجداد الى الأبناء والأحفاد، وهذا الاهتمام يؤكد الحرص على الارتباط بالجذور والماضي، وهذا نجده عند جميع الأمم والشعوب والمجتمعات.
ومع التطور الكبير الذي يحدث في العالم واختلاط العادات بعضها بعضا، أصبح الاهتمام بالتراث بكل أشكاله أكثر أهمية، خصوصاً للمجتمعات العربية والإسلامية التي لديها رصيد كبير ومتميز عن باقي الأمم، بحسب سرحان.
ونشأة الأشخاص في أسرة كبيرة بالقرب من الجدين اللذين لهما اهتمامات بأنواع من الطعام، وفق سرحان، جعلها راسخة بالعقول، حيث يعتاد على هذه الأنواع في الصغر، خصوصاً أن بعض كبار السن عايشوا فترات كانت فيها أنواع من الأكلات الشائعة البسيطة التي يمكن أن تناسب الجميع، ومنها ما هو خاص بفصل الشتاء أو الصيف، وهي تحضر مما هو موجود في المنزل.
كما يشير سرحان إلى بعض الأصناف من الحلويات التي كانت تعد داخل المنزل ويتلذذ بها الجميع، حيث كان الجميع يعتمد على إعداد الطعام داخل المنزل، وفي بعض الأحيان يتم تبادل أطباق الطعام أو الحلوى بين الجيران، حيث كان الناس أكثر قرباً إلى بعضهم بعضا، والحياة بسيطة ليس فيها تكلف أو تصنع.
ومع زيادة أعداد النساء العاملات وانتشار المطاعم وتقليد الآخرين حتى في أنواع الطعام والشراب، أصبحت بعض الأكلات نادرة وغير منتشرة عند جميع الأسر، بل إن البعض من الرجال والنساء لا يعرفون أسماءها أو مكوناتها عدا عن طريقة إعدادها، وفق سرحان.
وهم يطلقون عليها أكلات شعبية أو تراثية، مع أن أغلب هذه الأكلات أقل تكلفة وأسهل إعداداً وأكثر قيمة غذائية للإنسان.
ويلفت سرحان إلى أن من اعتاد أو تناول بعض هذه الأكلات بحكم البيئة التي نشأ فيها، فإنه بين الحين والآخر يشتهي تناولها ويبحث عمن يقوم بإعدادها سواء داخل الأسرة والعائلة أو عند بعض الأصدقاء المهتمين أو في بعض المطاعم التي تعد مثل هذه الأكلات.
ويقول “أحياناً يقوم بعض الأشخاص بدعوة أصدقائه المقربين إلى منزله لتناول وجبة من الطعام ذات الطابع الشعبي، باعتبار أن لديه جدة أو أما تتقن إعداد هذه الأكلة”، مما يبعث عند الجميع الحنين للماضي والتعرف على بعض تفاصيل الحياة عند الأجداد، حتى لو لم يعايش الشخص هذه الفترة، فإنه يستمتع بالتعرف على ما يربطها بالماضي وتاريخ الأسرة.
أما من كان يتناول في صغره بعض هذه الأكلات، فإنه يكون أكثر سعادة لأنه يتذكر أدق التفاصيل والأحداث والتقاليد ويربط الماضي بالحاضر ويعقد المقارنات، فبعض الأكلات تكون مرتبطة بأشخاص أو مواقف مؤثرة في حياته، بحسب سرحان.
ومع انصراف كثير من الأسر عن الاهتمام بالأكلات الشعبية عموماً، فإن بعض المطاعم أصبحت متخصصة في إعدادها وتقديمها للراغبين، حيث نجد إقبالاً كبيراً عليها بالرغم من أن تكلفتها في المطاعم مرتفعة مقارنة مع الوجبات الأخرى، إلا أن حرص البعض عليها، ولو بشكل دوري، جعلهم على استعداد للإنفاق على هذه الوجبات.
ويؤكد سرحان بقوله، من المهم أن تهتم الأسرة بالتراث بكل تفاصيله؛ لأنه يعد أحد عناصر القوة للمجتمع ويشعر الجيل بالعراقة والاعتزاز بالماضي.
والاهتمام بالأكلات الشعبية والمحافظة عليها مسؤولية أسرية ومجتمعية، ومن الأمور التي ينبغي الحرص عليها وتعليم الأبناء والأحفاد طرق إعدادها، وأن تكون أسماؤها معروفة، وعدم الشعور بالحرج من تناولها بحجة أنها (أكلات قديمة)، فالتطور والحضارة لا يعنيان الانقطاع عن الماضي والتنصل منه بل البناء عليه، وفق سرحان.

 

منى أبوحمور/ الغد

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة