الدولمنز…شواهد على استيطان البشر في الأردن في العصر البرونزي
بعد جولة بمعالم مدينة مأدبا الأثرية وزيارة جبلي المخيط ونيبو، خلال طريقنا لبانوراما البحر الميت، استكملنا رحلتنا بزيارة موقع يعد من أصول العمارة وبدايات الحضارة وهو «حوض دولمنز المريغات» والحجر المنصوب.
سلكنا الطريق بعد بلدة ماعين التي خرّجت عددا من نوابغ العلم والأدب في الأردن نحو الجنوب صوب قرية الحجر المنصوب التي سُميت نسبةً إليه، والمزروع فيها منذ أكثر من ثمانية آلاف عام على أقل تقدير حينما كانت مؤهلةً للخصوبة ومحرك الريح ومسقط المطر وذو المكانة المرموقة اكباراً للآلهة لدى الكنعانين؛ فحسب الأسطورة الأوغاريتية «إله المحارب» هو ذاته إله الشمس لدى الفنيقين فدوما، الذي انتصر بعزةً وشموخ في ذلك الوقت.
ومنذ ثلاث سنوات تواصلنا مع شركة توليد الطاقة ليصبح موقعه ضمن محيط شركة متخصصة بتوليد الطاقة الكهربائية من الشمس، حيت تعمل على المحافظة عليه والحرص على سلامته، بمساحة جامعة بين تاريخ الماضي وروح العصر.
الأثر الخالد « الدولمنز»
ومن هناك كان دربنا نحو تلال الدولمنز وعدد منها بقي صامداً على جنبات الطريق، والتي تعود عِمارتها للعصر البرونزي المتآخر حين كانت تستخدم مدافن مبنية من صفائح الأرض الصخرية على الجوانب والسقف الضخم، فالميت كان يسجى بداخلها على الصفيحة الأرضية، ومن ثم يتم إغلاق المدفن عليه من ذات الصخور حتى لا تنهش جثته السباع والكواسر، وهي بذلك أول بناء جماعي مخطط وأول بناء ذي سقف حجري بناه الإنسان وتُدرس ضمن تخصصات هندسة العمارة والفنون الجامعية وهي ذاتها التي مثلت ببعض برامج الرسوم المتحركة كفلنستون وطمطم.
إن هذا المكان الرائع يضمن سلسلة من المدافن الخالدة التي نجت من معاول الطحن والتدمير بسبب جشع أصحاب الكسارات والمقالع بعد ما تنبهت إليه دائرة الآثار العامة واستملكت الموقع عام 2020م على ضوء ما كنا نرفع لهم من ملاحظات وخطر محدق ومخالفات صريحة حسب مبادرتنا «حماية آثار الدولمنز» ، ليكون مسارا سوف يدرج قريبا ضمن الخارطة السياحية بعد أن يتم تأهيل الموقع حسب الأصول المهنية.
أخذنا جولتنا ضمن مساحة الأنصاب الحجرية والتي ذكرها الضابط البريطاني كونراد في فصلِ كامل ضمن كتابه «كتابة المسوحات الأثرية في شرق الأردن وفلسطين»، أما الذي حولها فهو جدار صخري يحيط بالموقع وشبكة من القنوات المائية، إضافةً لبئر قديم منقوب بالصخر والذي ما زال يستخدمه الأهالي لغاية اليوم، وسلسلة من الجرون متعددة الاستخدام كالواسعة لتجميع مياه الأمطار، والملساء لطحن الحبوب، أو لغايات جنائزية كإشعال النار أو الذبح عليها وجمع دماء القرابين، ومن الموقع اجتزنا مكان السيل القديم نحو التل والذي يبدوا أنه كان جارياً من نعومة رواسبه.
وقد شاهدنا سلسلة من بيوت الدولمنز التي كانت على شكل أقواس وصفوف متتالية حتى قمة التل حيث لا يمكن مشاهدتها من بعيد لأنها من صلب المكان وطبيعته وهو الأسلوب ذاته المعروف بنظام الإظهار والإخفاء بفنون العمارة، والمذهل كيف تم رفع هذه الحجارة التي تحتاج لمجهود كبير، ومنها ما هو على أطراف الجبل بمكان صعب الوقوف عليه وقبل أن يستأنس الإنسان الحيوان ويطوعه لخدمته! لذلك سُميت حسب المعتقد الشعبي بيوت الجن فهي كانت مأوى لهم.
وما بينها ينبت أنواعا من الصبارات التي من الممكن أن تدخل بتكوين المستحضرات الطبية والتجميلية كما أشار الدكتور خيري ياسين ببحثه، وقد تضمن المكان سلسلة من الكهوف متعددة المداخل، وأمامها مهد ساكنوها مصاطب استندت على جدران بنيت بصخور ضخمة وبعض منها قد شذب مداخله بفترة متأخرة بشكل مربع، أما من على قمة الجبل فمشهده يطل على وادي زرقاء ماعين والسد الحديث الذي أقيم عليه.
دهشة الكتاب والفنانين
دهشة وذهول
مكان بحق يثير الذهول والدهشة ومشابه لأحدى عجائب الدنيا السبع «استونهينج» الموجودة في بريطانيا، فهذا المكان ما من زائر دعوناه ليأتي إليه، إلا حرك فيه الكثير فقد تأثرت به ريشة عدد من التشكيلين، لخلق مجموعة تجاوزنا بها الخمسين عمل لمبدعي وقامات فنية من عشرة دول وضع كل منهم إسلوبه وبصمته إيماناً بأهمية الموقع ووجوب المحافظة على مكانته التاريخية وبداية الفكر البشري في الاستيطان وفنون العمارة، حين كان منتشراً قبل أن ترسم الحدود وهو صلب ما ننادي به بمبادرة حماية آثار الدولمنز، كما مر على المكان من المستشرقين سيلاه ميرل 1875م وذكرها بكتابه «شرق الاردن»، والباحث ترسترام 1872م وضَمّنها في مرجعية أرض مؤاب، ونكون بذلك استكملنا مسارنا الاستجمامي السهل البالغ ثلاثة كيلو مترات لنكمل طريقنا نحو بانوراما البحر الميت، والتمتع بسحر غروبها فوق جبل فلسطين.
عبد الرحيم العرجان/ الدستور
التعليقات مغلقة.