الهجرة النبوية.. نقطة تحول تاريخية ومنارة للإسلام لنشر رسالته إلى العالم

 تُعدّ الهجرة النبوية الشريفة التي تصادف ذكراها اليوم نقطة تحول تاريخية في نشر الإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، التي أصبحت منارة للإسلام ومركزًا لنشر رسالته إلى العالم.

فهجرة النبي- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة تعدّ قصة نصر عظيم يطالعها الفرد، فيستنبط منها العبر، وتشرق معه شمس الأمل بأن المصائب والصعاب يتبعها مع الإيمان والصبر والعمل فَرَج ونور يضيء حياة المسلم كلها.

فبالرغم من أن الهجرة النبويّة الشريفة ظاهرها المحنة والشدّة والكرب، إلا أنه لمّا علم النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- أنها بأمر الله -سبحانه وتعالى- استجاب صلوات ربّي وسلامه عليه لأمر الهجرة، فأنزل الله -سبحانه وتعالى- عليه السكينة والطمأنينة والتأييد، فكانت الهجرة النصر من الله، وأصل الفتح.
وللهجرة النبوية الشريفة الكثير من الدروس العظيمة في الاستعداد للتغييرات الكبيرة، وكيفية التعامل مع التحديات والمواقف الصعبة بصبر وثقة وثبات، وتحمل في طياتها رسائل مبشرة بالنصر للأمة، خاصة في ظل المحنة التي يمر بها أهلنا في غزة، الذين يعانون من الحرب والدمار والألم، هؤلاء الشجعان يصمدون أمام وجه الطغيان، ويعيشون في ظروفٍ قاسية ومأساوية متسلحين بالإرادة الصلبة والعزيمة الصادقة واليقين التام بالله بأن فرج الله قريب.
سماحة مفتي عام المملكة الدكتور أحمد الحسنات، قال إن مناسبة الهجرة النبوية المشرفة محطة مهمة في حياة كلّ مسلم لما فيها من معان خالدة يستلهم من ثناياها المعاني والعبر، ويسترشد بهديها إلى طريق الفلاح، ويستنير بقبسها إلى خير الدنيا والآخرة خاصة في ظل ما تعيشه الأمة اليوم من ظـروف استثنائية تهدد هويتها، ومعاول تحاول هدم أركانها، وخطر محدق بأقدس مقدساتها.
وأضاف: “لذلك كانت ذكرى الهجرة النبوية هي التاريخ الخالد الذي أعلن ولادة أمة ربانية وحجر الأساس في بناء مجد اشترك في تشييده أبناء المجتمع من مهاجرين وأنصار بسواعد الجـد والاجتهاد، وروح الأخوة والتعاون، يقول الله تعالى: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)) الحشر: آية 8-9”.
وتابع: “فكان هذا الاجتماع سبباً في اختيار هذه الحادثة لبداية تأريخ الأمة حافزاً لحماية مكتسباتها، ودافعاً للحفاظ على عزها وشموخها، فالهجرة النبوية المشرفة كانت هي المحطة التي غيرت مجرى التاريخ، ورسمت خريطة أمة ولدت من رحم المعاناة بعد بذل التضحيات العظيمة، وصبر على الأذى، لتذكر الإنسان بهويته وفطرته التي خلقه الله تعالى عليها، وترجعه إلى مقام العبودية التي أرادها الله تعالى للناس من خلال منهج صحيح يقوم على التخطيط الحكيم، فبناء الأمم يحتاج إلى سواعد تبني أمجاده بسواعد الإخلاص”.
وأضاف: “لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفقد الأمل بقلوب حية بحث عنها في أرض يثرب التي طابت بمقدمه، وتنورت بطلعته صلى الله عليه وسلم، فانتقل من بلد أهلها يلاحقونه بالسيوف، إلى بلد أهلها يحيونه بالدفوف، ليبدأ بنشر الخير والفضيلة ومعه ثلة من المؤمنين الصادقين يساندونه وينصرونه، وقد رافق هذه المسيرة تخطيط سليم، وهو ما فعله النبي -صلى الله عليـه وسلم- في هذه الرحلة المباركة، حيث اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- جميع الأسباب من تجهيز الراحلة، وتغيير طريق المسير، واتخاذ الدليل المرشد في الصحراء، والاحتماء في غار ثور”.
واستدرك: “لكن هذه الأسباب وحدها بحاجة إلى نصرة وتوفيق ومعونة من الله سبحانه وتعالى، وهذا ما كان منه -صلى الله عليه وسلم- حين عثر المشركون على مكانه في غار ثور رغم اتخاذ جميع وسائل الحماية، حتـى قـال أبـو بكر الصديق رضي الله عنه: “لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا”، فيجيبه النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغة الواثق من ربه سبحانه وتعالى: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما”، يقول سبحانه وتعالى: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)) التوبة: آية “40.
وقال: “لقد هدمت الهجرةُ النبوية المشرفة عبادةَ الأوثان والشرك في المدينة المنورة، وطوت صفحة من تاريخ المدينة المليء بالأحقاد الجاهلية والصراعات التي أججها يهود المدينة المنورة، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعاً عماده المحبة والأخوة بين الناس، وجعل صلة الديـن أقـوى مـن صلة الدم والنسب، حتى يعلم المؤمنون أنهم أمّة واحدة وجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى هذه الحقيقة التي يجب أن تبقى حاضرة في وجدان الأمة لكي تبقى قوية عزيزة”.
ولفت إلى أنه في ظل الظروف التي تعيشها أمتنا اليوم، تعلمنا الهجرة المشرفة أن المحافظة على المقدسات بحاجة إلى عمل دؤوب، وأن أعداء الأمة الذين واجهوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة من اليهود والمنافقين ما زالوا يحاولون هدم هوية الأمة وحضارتها، والاعتداء على مقدساتها، وهدم أركانها بنفس الوسائل والأساليب، وإن اختلف الزمان والمكان، وتغيرت الوجوه”.
وأضاف: لذلك ينبغي للمسلمين التنبه إلى هذا الخطر الداهم الذي يحيط بأمتنا، وأن نجعل من معاني الهجرة المشرفة، مفتاحاً لمواجهة هذه التحديات بأخوة المسلمين واتحادهم، والتفافهم حول راية وحدتهم، وبتخطيط سليم وعمل دؤوب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ستبقى هذه الأمة قوة في وجه هذه التحديات مصداقاً لقول النبي صلى عليـه وسلم: “بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ في الْأَرْضِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُم عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخرة نَصِيبٌ” مسند الإمام أحمد.
أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم في كلية الشريعة في جامعة آل البيت الدكتور عماد خصاونة قال: “إنَّ الهجرة النبويّة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تعدّ حدثًا مهمًّا ومتميزًا في تكوين المجتمع، وجعل رسالة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- رسالة عالميّة، وبذلك تمكّن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- من بناء النظم المجتمعيّة القائمة على أساس المساواة، وتحقيق الحريّة، وسيادة القانون”.
وأشار إلى أنه لأهميّة الهجرة النبويّة، فقد تحدّث القرآن الكريم والسنّة النبويّة عنها، فبيّن القرآن الكريم سوء تعامل المشركين مع النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فقال تعالى: ((وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا)) الإسراء: آية 76، فالكفار كانوا يستفزون النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وأصحابه بالجفاء والأذى والمقاطعة، فسوء المعاملة بأن همّوا أن يخرجوه كرهًا من بلده، ثمَّ صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجرًا من غير علمٍ منهم بأنّهم ارتأوا بعد زمنٍ أن يبقوه حتى يقتلوه.
فخافوا من خروج النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- من مكة حيث سيلتقي بالقبائل العربيّة، ويدعوهم إلى الإسلام، فحاولوا منعه لمحاولة قتله.
وقال إن بعض الآيات القرآنيّة بينت شدّة المكر وصعوبة المحنة برسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجعل الله -سبحانه وتعالى- من هذه الشدّة نصرا وفتحا قريبا، فقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)) القصص: آية 85، فكانت تنويهًا بشأن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وتثبيتًا لفؤاده، وتسليةً لقلبه، ووعده بحسن العاقبة بأنَّ الله تعالى رادّه إلى مكانه، وهذه الآية تدّل على مقام البشارة لرسول الله -صلى الله عليه وسلّم- بما تلقى من الكرامة التي لا تعطى لأحدٍ غيره، كما أنَّ القرآن لم ينزل على غيره، وفقا للخصاونة.
ولفت إلى أن الآيات القرآنيّة بينت بعد مظاهر البشارة ومظاهر النصر والتأييد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فهاجر النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- إلى المدينة المنورة، قال الرّسول صلى الله عليه وسلّم : (رأيت في المنام أنّي أهاجر من مكة إلى أرض بها نخلٌ، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب) رواه البخاري، وفيه بيان ما أمر الله -عزَّ وجلّ- النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- بالهجرة إلى المدينة إلّا وكانت لهم حسن العاقبة.
وأوضح أن الهجرة النبويّة الشريفة ظاهرها المحنة والشدّة والكرب، ولمّا علم النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- أنها بأمر الله – سبحانه وتعالى- استجاب لأمر الهجرة، فأنزل الله -سبحانه وتعالى- عليه السكينة والطمأنينة والتأييد، فكانت الهجرة النصر من الله، وأصل للفتح.
وأشار إلى أننا نستذكر في هذه الأيام المحنة التي يمرُّ بها أهل غزّة من مأساة الحرب، ومعاناة الألم، وصرخات المرضى، فهي أزمة إنسانيّة، ولكنّها تحتاج إلى صبرٍ وثباتٍ ودعمٍ ليحقق صمودهم حتى يأتي نصر الله تعالى، سائلا الله -سبحانه وتعالى- أن يحفظ بلدنا الأردنّ، حرًّا، عزيزًا، كريمًا، آمنًا، مطمئنًا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وقال أحمد العمايرة من وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية: “تعدّ الهجرة من الأحداث التاريخية المهمة التي غيّرت مسار الإسلام وحدّدت مستقبله، فقد كانت لحظة فارقة في حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ومعجزة إلهية حقيقية، فالهجرة لم تكن مجرد نقل جغرافي، بل كانت خطوة إستراتيجية وروحانية تحمل في طياتها الكثير من الدروس والمعاني التي تتجدد قيمتها وأهميتها في كل زمان ومكان”.
وأضاف: “فالهجرة إلى المدينة لم تكن مجرد هروب من الاضطهاد؛ بل كانت خطوة إستراتيجية ومدروسة لنشر الإسلام وبناء مجتمع جديد قائم على العدل والمساواة، ونقطة تحول تاريخية في نشر الإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، التي أصبحت منارة للإسلام ومركزًا لنشر رسالته إلى العالم”.
وبين أنه تتجلى أهمية الهجرة النبوية الشريفة في البُعد الديني والروحاني، الذي يعبر عن الثبات والقوة في الإيمان، حيث أنها تجسد الثقة بقضاء الله وقدرته، وتعليم الصبر والاستمرارية في سبيل الدعوة إلى الله، والبُعد الاجتماعي والسياسي، الذي تمثل في بناء دولة إسلامية تعتمد على المبادئ الإسلامية في الحكم والتعايش السلمي بين الأمم، والبُعد الإنساني، الذي ظهر في رعاية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته واهتمامه بتوفير الظروف المناسبة للمسلمين لممارسة شعائر دينهم بحرية وسلام.
وأوضح أنه يُستفاد من حادثة الهجرة النبوية الشريفة دروس تتجدد بتجدد الحوادث على مر الزمن، إذ يستفاد من الهجرة الاستعداد للتغييرات الكبيرة، وكيفية التعامل مع التحديات والمواقف الصعبة بصبر وثقة، والبحث عن الأمان والحرية، وضرورة البناء الاجتماعي الذي يعزز قيم التعاون والتضامن بين الأفراد والمجتمعات المختلفة في سبيل بناء مجتمع أفضل وأكثر تلاحمًا وتقدمًا.-(بشرى نيروخ- بترا)

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة