الولايات المتحدة تنشر غواصة مزودة بصواريخ كروز لتعزيز الردع ضد إيران
وسط تصاعد التوترات مع طهران ووكلائها في المنطقة، تبعث الولايات المتحدة رسالة من خلال نشرها علنا إحدى غواصات الصواريخ الموجهة القليلة التي تملكها في المنطقة.
- * *
عادة، لا يتم الإعلان عن عمليات نشر الغواصات الأميركية مسبقاً، خاصة عندما تدخل منطقة عمليات يحتمل أن تكون ساخنة وقد تتطلب منها الاعتماد على التخفي، الذي هو ميزتها الرئيسية في العمليات. ولكن الغواصات ذات الأسلحة التقليدية المزودة بالصواريخ الموجهة تشذ عن القاعدة – أحيانا يُحدَّد وجودها بوضوح على أنه استعراض للردع. ويبدو أن هذا كان الهدف الرئيسي عندما أعلنت “القيادة المركزية للقوات البحرية الأميركية” في 8 نيسان(إبريل) الماضي أنه قد تم نشر الغواصة الأميركية “يو إس إس فلوريدا” (SSGN-728) في الشرق الأوسط “لتعزيز الأمن والاستقرار البحري في المنطقة”. وتجدر الإشارة إلى أن الغواصة “يو إس إس فلوريدا” هي واحدة من أربع غواصات فقط مزودة بصواريخ موجهة وتابعة للقوات الخاصة في أسطول “البحرية الأميركية” – وعادة ما يتم تكليفها بمهام سرية ذات أولوية قصوى.
اشتباكات متزايدة بين إيران وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل
في 23 آذار(مارس) الماضي، تعرضت قاعدة أمامية مأهولة بجنود أميركيين بالقرب من الحسكة في سورية لهجوم بطائرة بدون طيار محمّلة بالمتفجرات أطلقتها مليشيات شيعية عراقية تابعة لـ “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني. وأسفر ذلك الهجوم عن وقوع إصابات متعددة بالإضافة إلى مقتل مقاول أميركي – وهي حصيلة تجاوزت خطوط واشنطن الحمراء وأدت إلى شن غارات جوية أميركية متعددة داخل سورية. ومع ذلك، لم تنجح هذه الضربات إلا جزئيا في ردع إيران ووكلائها – وسرعان ما تم إطلاق وابل من الصواريخ على مجمع أميركي آخر في سورية، مما أثار مخاوف بشأن المزيد من التصعيد.
وتزامنت هذه الاشتباكات مع سلسلة من الضربات الجوية الإسرائيلية الدقيقة التي تم توجيهها من مسافة آمنة ضد أهداف تابعة لـ “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله” في سورية ابتداءً من 30 آذار(مارس) الماضي. وأدى مقتل ضابطين من “الحرس الثوري” وعناصر آخرين إلى إصدار طهران وعود بالانتقام. وفي 2 نيسان(إبريل) الماضي، حاولت طائرة مسيّرة، يُشتبه أنها إيرانية وفقاً لبعض التقارير، اختراق شمال إسرائيل انطلاقاً من سورية ولكن تم إسقاطها. وفي اليوم التالي، أسقطت إسرائيل طائرة مسيّرة من طراز “شهاب” تابعة لـ “حماس” أثناء محاولتها الدخول من قطاع غزة.
وفي غضون ذلك، أدى تصاعد التوترات في الضفة الغربية إلى توجيه عدة ضربات صاروخية ضد إسرائيل، أُطلقت بعضها الفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان بينما تم إطلاق البعض الآخر من غزة وسورية. ورداً على ذلك، شنت إسرائيل غارات جوية استهدفت مواقع الإطلاق. ويُعتبر خطر التصعيد كبيراً نظراً للتوترات المستمرة في جبل الهيكل/الحرم الشريف وإعلان إيران “يوم القدس” في الجمعة الأخيرة من رمضان، الذي صادف الرابع عشر من نيسان(أبريل) الماضي. وفي هذا السياق، بإمكان الولايات المتحدة وشركائها الاستفادة من التأثير الرادع وقدرات جمع المعلومات الاستخبارية القوية للغواصة الأميركية “يو إس إس فلوريدا” – ومن قوتها النارية الإضافية إذا لزم الأمر.
الإشارة عن طريق الغواصات
وفقا لـ تقارير إعلامية نقلا عن مسؤولي دفاع أميركيين، دفعت أنشطة الطائرات المسيّرة الإيرانية المشبوهة في خليج عدن وبحر العرب والبحر الأحمر، إلى قيام “البحرية الأميركية” وهيئة “عمليات التجارة البحرية البريطانية” (UKMTO) بإصدار تحذيرات من هجمات محتملة ضد سفن الشحن في 5-6 نيسان(أبريل) الماضي. وكانت التحذيرات موجهة بشكل خاص إلى سفن الشحن وناقلات النفط الإسرائيلية، التي طُلب منها، وفقاً لبعض التقارير، الإبحار بعيداً عن المياه الإيرانية وإطفاء أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بها. ومنذ شباط/فبراير 2021، هاجم “الحرس الثوري” الإيراني السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل في خليج عُمان أو بحر العرب سبع مرات على الأقل، باستخدامه طائرات مسيرة انتحارية و/أو ألغام لاصقة لتدمير السفن، أدّت في إحدى الحالات إلى قتل أفراد الطاقم.
لقد مر بعض الوقت منذ أن اعترفت “البحرية الأميركية” بنشر غواصة في المنطقة. ففي 21 كانون الأول(ديسمبر) 2020، عبرت “يو إس إس جورجيا”، وهي غواصة أخرى مزودة بالصواريخ الموجهة التي تعمل بالطاقة النووية، مضيق هرمز بينما كانت تطفو على سطح المياه إلى جانب طرادتي صواريخ أميركيتين. وتم هذا الانتشار خلال فترة أخرى من التوترات الشديدة التي تميزت بتطورين: الذكرى الأولى الوشيكة للضربة الأميركية التي أدت إلى مقتل قائد “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني قاسم سليماني، واغتيال المسؤول النووي الإيراني الرفيع المستوى محسن فخري زاده في تشرين الثاني(نوفمبر) الماضي، على يد إسرائيل كما يُزعم. وفي ذلك الوقت، تم نشر مجموعة حاملة الطائرات “نيميتز” أيضاً في شمال بحر العرب لدعم انسحاب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان.
وجرت عملية نشر أخرى رفيعة المستوى في 19 تشرين الأول(أكتوبر) 2022، عندما قام قائد “القيادة المركزية الأميركية” الجنرال مايكل كوريلا بجولة في الغواصة المزودة بصواريخ باليستية “يو إس إس ويست فيرجينيا” في بحر العرب. وتعتبر هذه الغواصات أسلحة رئيسية للردع الاستراتيجي وجزءاً من الثالوث النووي للولايات المتحدة، لكنها لا تقوم غالباً بدوريات في الشرق الأوسط. وتم تفسير هذه الخطوة على أنها رسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (الذي هدّد مؤخراً باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا) ولإيران (التي تقوم بتزويد موسكو بطائرات مسيّرة انتحارية لاستخدامها في أوكرانيا، وربما بصواريخ باليستية قصيرة المدى أيضاً).
كيف يمكن استخدام غواصة مزودة بالصواريخ الموجهة وتعمل بالطاقة النووية ضد إيران؟
عادةً ما يتم تكليف الغواصات الأربع المزودة بالصواريخ الموجهة التي تعمل بالطاقة النووية المحولة من فئة “أوهايو” التابعة لـ “البحرية الأميركية”، بجمع معلومات سرية للغاية وتنفيذ مهام الضربات التقليدية. ويتم تزويد هذه الغواصات بما يصل إلى 154 صاروخ كروز من طراز “توماهوك” TLAM-E الموجهة بدقة والتي يتم إطلاقها رأسياً (UGM-109E Block IV) بمدى يصل إلى 1600 كيلومتر ورأس حربي يزن 454 كيلوغراما. وهذه الدفعة من “توماهوك” قادرة على الحوم أثناء الطيران ولديها رابط بيانات للأقمار الاصطناعية ثنائي الاتجاه يمكنه تلقي بيانات محدثة عن المهام لإعادة الاستهداف وتصحيح المسار وتقييم الأضرار. وتُعتبر هذه القدرة مفيدة بشكل خاص لاستهداف منظومات الدفاع الجوي وقاذفات الصواريخ الباليستية المتنقلة.
إن مدى 1600 كلم يمكّن الغواصات المزودة بالصواريخ الموجهة التي تعمل بالطاقة النووية المغمورة على مسافة آمنة في بحر العرب من إطلاق صواريخ كروز سراً على أهداف في عمق إيران، باستخدام أي نقطة دخول على طول ساحلها الممتد على مسافة 784 كلم مع خليج عمان ومعظم حدودها البرية التي يبلغ طولها 1600 كلم مع باكستان وأفغانستان. وهذا يضع جميع المواقع العسكرية للنظام ومنشآته الصناعية العسكرية وأهداف أخرى في الجنوب والشرق ضمن نطاق الضربات، فضلاً عن بعض مواقعه النووية الرئيسية. وعلى الرغم من عدم تمتع صواريخ TLAM-E بقدرات اختراق كبيرة للأهداف الصعبة، إلّا أن رأسها الحربي القابل للبرمجة المتعدد التأثيرات ما يزال يتيح درجة معينة من “خرق التحصينات”، خاصةً عندما تضرب عدة صواريخ نقطة واحدة بالتتابع.
ومع وجود غواصة مثل “يو إس إس فلوريدا” في مسرح العمليات، قد تتراجع قدرات المراقبة الإيرانية ودفاعات صواريخ كروز على طول هذه الحدود الشاسعة والنائية (للحصول على مناقشة أكثر تفصيلاً للدفاع الجوي للنظام، والتي تشمل الرسومات البيانية، راجع المرصد السياسي 3626). وفي كانون الثاني(يناير) 2021، تسببت تقارير كاذبة عن اختراق صواريخ كروز أميركية من عدة اتجاهات في حدوث ارتباك داخل القيادة العسكرية الإيرانية بعد هجومها على “قاعدة الأسد الجوية” في العراق، وفقاً لبعض التقارير – لدرجة أن نظام الدفاع الجوي قصير المدى من طراز “TOR-M1” التابع لـ “الحرس الثوري الإيراني” أسقط طائرة ركاب أوكرانية مدنية بالقرب من طهران.
وتم تجهيز الغواصات المحوّلة من فئة “أوهايو” أيضاً بمأوى جافاً على السطح يبلغ وزنه ثلاثين طناً، مما يمنحها القدرة على تسليم واستعادة فرق الكوماندو التابعة لـ “مغاوير البحرية” في مهام سرية باستخدام الغواصات أو القوارب الصغيرة.
وتمنح هذه القدرات، إلى جانب عمليات جمع المعلومات الاستخبارية الموثوقة والاتصالات الآمنة على مستوى قيادة القوة، شبكات الغواصات المزودة بالصواريخ الموجهة التي تعمل بالطاقة النووية قدرات شبيهة بحاملات الطائرات عندما لا تتوفر هذه الحاملات. كما تقدم شبكات هذه الغواصات مزايا لوجستية مقارنةً بمجموعة حاملة الطائرات الهجومية، مثل النشر الأكثر سرعة وإخفاء مكان وجودها – على الرغم من أن البنتاغون سوف يعلن أحياناً عن نشر غواصة لتحقيق نفس التأثيرات الرادعة التي يُحدثها وجود حاملة الطائرات، كما ذُكر أعلاه.
وفي الحالة الراهنة، يبدو أن غواصة “فلوريدا” قد تم نشرها أمامياً في الشرق الأوسط لأنه تم تمديد المهمة التي تركز على روسيا لمجموعة حاملة الطائرات الهجومية “جورج دبليو بوش” في شرق البحر الأبيض المتوسط. وعلى الرغم من أن مجموعة حاملة الطائرات ما تزال قادرة على إطلاق القوة الجوية داخل سورية من البحر الأبيض المتوسط، فقد توفر صواريخ كروز التي تطلقها غواصة “فلوريدا” بديلاً أفضل بكثير ضد الأهداف المحتملة في كل من إيران وشرق/جنوب سورية، والتي يمكن ضربها من مسافة آمنة في بحر العرب أو خليج عمان. ويصعب الاكتشاف والتصدي لصواريخ “توماهوك” التي تحلق على ارتفاع منخفض، لا سيما إذا تم إطلاقها من شبكات الغواصات المزودة بالصواريخ الموجهة التي تعمل بالطاقة النووية المغمورة.
ومن المثير للاهتمام أن طهران تتطلع إلى امتلاك قدرة إطلاق غواصات خفية خاصة بها. فمنذ عام 2019 على الأقل، تعمل البحرية الوطنية الإيرانية على تطوير واختبار نظام قائم على العبوات المتفجرة لإطلاق صواريخ “نصر” المضادة للسفن من أنابيب الطوربيد الخاصة بالغواصات. ووفقاً لبعض التقارير، يبلغ مدى هذه الصواريخ حالياً حوالي 100 كلم. ولا تزال الغواصات الإيرانية تفتقر إلى أنظمة الإطلاق المائلة أو الرأسية لصواريخ كروز البعيدة المدى، لكن النظام الإيراني يعمل على الأرجح على اكتساب هذه القدرة.
الخاتمة
على الرغم من انفتاح إيران تجاه شركاء أمريكا في الخليج، إلّا أنها لا تزال ملتزمة بإخراج الولايات المتحدة من المنطقة وتشكيل خطر واضح وملموس على قواتها في سورية ومناطق أخرى. كما تعمل على تطوير قدرات “مضادة لحاملات الطائرات” على شكل صواريخ باليستية موجهة مضادة للسفن يصل مداها إلى 2000 كلم كما يُدّعى.
وفي هذا السياق، تعد غواصات الصواريخ المرنة والخفية الموجهة التابعة لـ “البحرية الأميركية” بديلاً ممتازاً لنشر حاملات الطائرات عند الحاجة، مما يوفر وسيلة لتعزيز الردع ضد طهران ووكلائها من خلال الإبقاء على وجود سري مستمر. والجدير بالذكر أنه من المرتقب سحب جميع شبكات الغواصات المزودة بالصواريخ الموجهة التي تعمل بالطاقة النووية الأربعة من الخدمة بين عامي 2026 و 2028، مع عدم وجود بديل في الأفق. ومع ذلك، فحتى ذلك الحين، فإن احتمال تسبب 154 صاروخ “توماهوك” بأضرار جسيمة داخل إيران يمكن أن يبعث برسالة قوية، بما أن النظام الإيراني هو بطبيعة الحال أكثر حساسية بكثير تجاه الضربات المحتملة على أراضيه مقارنةً بتلك التي تستهدف مناطق بعيدة في سورية.
*فرزين نديمي: زميل مشارك في معهد واشنطن، ومتخصص في شؤون الأمن والدفاع المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج.
وكالات
التعليقات مغلقة.