الى أين وصلنا؟ // د. باسم القضاة

أصبحنا في زمنٍ تتسارع فيه الأخبار، ويبدو أن حياتنا باتت تتخذ طابعًا من اللامبالاة تجاه الوحشية اليومية. العين التي اعتادت على مشاهد العنف وصور الدمار، والأذن التي لم تعد تتأثر بانفجار هنا أو هناك، تعكس حالةً من الاستنزاف الروحي والعاطفي. أصبحنا نعيش في دوامةٍ من الألم المستمر الذي يكاد يتحول إلى روتين، إلى شيءٍ طبيعي لا يثير الدهشة. ربما نحتاج إلى وقفة، لنتذكر إنسانيتنا ونستعيد قدرتنا على التعاطف قبل أن نغرق في هذا الصمت القاسي.
إن القائمين على تلك المجازر يعيشون في فقاعة من الانفصال عن الواقع الإنساني، ربما يتصورون أن مصالحهم الشخصية أو أهدافهم السياسية تبرر الأذى الذي يلحق بالبشر. ربما يكونون محاطين بجدرانٍ من العنف الذي أصبح جزءًا من أدواتهم للسيطرة أو الهيمنة، لدرجة أن المعاناة التي يسببونها تصبح مجرد تفاصيل في لعبة أكبر.
لكن على الرغم من ذلك، من الصعب تصور كيف يمكن لشخص أن ينعم بالنوم والاسترخاء بعد ارتكاب أفعال من هذا النوع. ربما هم محاطون بمبررات أو أيديولوجيات تُغطي على الحقيقة، أو قد يكونون قد وصلوا إلى درجة من البرود النفسي بحيث لا يرون في أفعالهم شيئًا خاطئًا. في النهاية، إذا تم تحويل الإنسانية إلى مجرد أداة في صراع مكيافيلي، فلا شك أن الاستثمار في المعاناة لا يكون له مكان في ضمير حي.
إلا أنه لا يزال هناك أمل في أن التغيير الحقيقي يأتي من إيقاظ الضمير الجمعي، من استعادة قيم الإنسانية، ومحاربة تلك الأنظمة التي تشوه المعنى الحقيقي للعدالة والسلام.
الآخرون الذين يدعمون تلك الأفعال بصمتهم، أو حتى من يسكتون أمام الجرائم والإبادة الجماعية، هم جزء من المشكلة بقدر أولئك الذين يرتكبون الفعل نفسه. الصمت يصبح نوعًا من المشاركة غير المباشرة، وهذا النوع من السكوت ليس مجرد غياب عن الفعل، بل هو تواطؤ في تبني الممارسات الإجرامية أو على الأقل تغاضي عنها.
قد يكون هناك من يشعر بالضعف أو بالخوف من العواقب، وقد يكون هناك من يعتقد أن لا حيلة له في تغيير الواقع. لكن السكوت في مثل هذه الأوقات هو خيانة لأبسط القيم الإنسانية. هؤلاء “الراجفون” ، الذين يخشون المواجهة أو يتجنبون اتخاذ موقف، غالبًا ما يغلقون أعينهم عن الفظائع لأنهم يفضلون الراحة على المواجهة. لكن التاريخ أثبت مرارًا أن عدم اتخاذ موقف ضد الظلم لا يترك فقط الضحايا يعانون، بل يمكن أن يعيد تكرار المعاناة بشكل أكبر وأوسع.
حين نغمض أعيننا عن الأذى الذي يُرتكب، نسمح بأن تصبح المجازر أمرًا طبيعيًا. في النهاية، كلما كنا أكثر صمتًا، كلما أصبحنا شركاء في تدمير الإنسانية.
إن العلاقات التي تُبنى على تطبيع أو اتفاقيات “سلام” هزيلة، لا تساوي سوى مجرد حبر على ورق لا يحمل أي وزن حقيقي في تحسين الواقع. مثل هذه الاتفاقيات غالبًا ما تكون معزولة عن الواقع الإنساني وتعاملات غير جادة، حيث تفتقر إلى العدالة الأساسية والاحترام لحقوق الإنسان.
الوقت والموارد التي تُهدر في محاولات صياغة اتفاقيات لا تلامس جوهر القضايا، ولا تعكس معاناة الناس أو تطلعاتهم، يمكن أن يكون لها تأثير أكبر لو كانت موجهة نحو حل جذري للمشاكل ووقف الإبادة الجماعية. الحلول السياسية التي تتجاهل الواقع المعاش وحقوق الأفراد لا تنجح سوى في تأجيل الأزمة وإبقاء دوامة العنف مستمرة.
إيقاف مثل هذه العلاقات هو خطوة ضرورية لإعادة البناء على أساس العدالة والاحترام المتبادل. إلا أن الطريق لا يكون فقط بإيقاف تلك الاتفاقيات، بل ببدء حوار حقيقي يكون فيه الإنسان في قلب المعادلة، ويضمن حقوق الجميع ويعالج الجذور العميقة للصراعات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات علاقة