بعد عشر سنوات من الحرب.. لا سلام بالأفق في سورية
بعد عقد من العنف ومأساة إنسانية جعلت الحرب السورية تطبع بداية هذا القرن، تراجعت وتيرة المعارك وحدة القتال في البلاد، لكن الجراح ما تزال نازفة وأفق السلام غير منظور.
في نهاية العام 2011، بدا أن الرئيس بشار الأسد ونظامه قاب قوسين من السقوط وسط ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة عدة حكمت بلادها لعقود بقبضة حديدية.
ولكن بعد عشر سنوات، ما يزال الأسد في مكانه بعد انتصار باهظ الثمن لم يوفّر فرصة حقيقية لأي مصالحة مع الشعب، وهو يمارس اليوم سيادة محدودة على أرض باتت فريسة لقوى أجنبية متناحرة.
استغرق اشتعال موجة الاحتجاجات وقتا في سورية حيث كان التظاهر محظورا منذ نصف قرن، الى أن انتقلت اليها من تونس ومصر وليبيا. وبدت بعض التجمعات الأولى، على غرار الوقفات الاحتجاجية أمام السفارة الليبية في دمشق، بمثابة دعم للانتفاضات الجارية في بلدان أخرى، لا تحديا مباشرا لعائلة الأسد التي حكمت البلاد لأربعة عقود.
ويستعيد الناشط الحقوقي البارز مازن درويش في مقابلة عبر الهاتف مع وكالة فرانس برس ما حصل قائلا “كنا نهتف من أجل الحرية والديمقراطية كشكل من أشكال الدعم لتونس ومصر وليبيا، لكننا في الحقيقة كنا نهتف لسورية”.
ويقول درويش الذي اعتقل مرات عدة في سورية، آخرها في شباط(فبراير) 2012 لأكثر من ثلاث سنوات قبل الإفراج عنه العام 2015 ثم مغادرته البلاد، “بات شغلنا الشاغل البحث عن الشرارة التي توصل الدور إلينا، وهاجسنا سؤال: من هو البوعزيزي السوري؟”، في إشارة الى البائع المتجوّل التونسي محمّد البوعزيزي الذي أضرم النار في نفسه في 17 كانون الأول(ديسمبر) 2011 ، وشكل ذلك شرارة انتفاضة تونس.
الى أن أقدم فتيان على كتابة عبارة “إجاك الدور يا دكتور”، في إشارة الى الأسد، طبيب العيون المتمرّن في لندن، على جدار في مدينة درعا في جنوب البلاد، في إشارة الى مصير نظيره التونسي زين العابدين بن علي الذي اضطر للفرار إلى المنفى، أو مصير الرئيس المصري حسني مبارك الذي استقال تحت ضغط الشارع والجيش.
واعتقل فتيان درعا وتعرضوا للتعذيب، ما دفع المحتجين للخروج إلى الشارع. لم يكن تاريخ 15 آذار(مارس)، وهو التاريخ الذي تستخدمه وكالة فرانس برس وجهات عديدة لتوثيق بدء الانتفاضة السورية، اليوم الأول للاحتجاجات، لكنه اليوم الذي خرجت فيه التظاهرات بشكل متزامن في أنحاء مختلفة من البلاد.
وتصف الصحافية والكاتبة رانيا أبو زيد اللحظة التي أملت عليها عنوان كتابها: “لا عودة إلى الوراء: الحياة والخسارة والأمل في سورية زمن الحرب “، قائلة “تصدّع جدار الخوف العظيم، وتحطم الصمت. كانت المواجهة وجودية، للأطراف كافة، منذ بدايتها”.
سرعان ما تحوّلت الاحتجاجات الى نزاع دام أجبر نصف عدد سكان سورية البالغ قرابة 22 مليون إلى مغادرة منازلهم، في أكبر موجة نزوح منذ الحرب العالمية الثانية.
وفرّ نصف النازحين خارج البلاد، وقادت قوارب الموت عدداً كبيراً منهم إلى شواطئ أوروبا، في ظاهرة كان لنطاقها الواسع تأثيراً على الرأي العام والمشهد السياسي والانتخابات في القارة العجوز.
ووسط الفوضى التي ولّدها النزاع المسلح، أعلن تنظيم “داعش”، المجموعة الأكثر تطرفاً ووحشية الحديث، قيام “الخلافة الإسلامية” في سورية والعراق المجاور.
مع عسكرة النزاع، أرسلت إيران والولايات المتحدة، الخصمان اللدودان، قوات إلى سورية لحماية مصالحهما، كذلك فعلت تركيا. وبدأت روسيا في نهاية أيلول(سبتمبر) 2015 أكبر تدخل عسكري خارج حدودها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، في خطوة رجّحت الكفة في الميدان لصالح الأسد.
خلال عشر سنوات من الحرب، قُتل قرابة 400 ألف شخص، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يواصل احتساب عدد القتلى بعد توقّف المنظمات الدولية عن ذلك منذ فترة طويلة. قُتل معظم المدنيين منهم، وعددهم الإجمالي 117 ألفاً، على يد النظام الذي واجه السكان المعارضين له بوحشية فاجأت أشد خصومه.
واستخدم النظام الأسلحة الكيميائية ضد مناطق مدنية لإخضاع جيوب المعارضة فيها. وشنّت طائراته غارات كثيفة بالبراميل المتفجّرة على مناطق مأهولة بالسكان، مخلفة الموت العشوائي.
واعتمد بشكل منهجي سياسات الحصار والتجويع لإخضاع خصومه. ولم يتردد سلاح الجو في تنفيذ عدد لا يُحصى من الضربات ضد منشآت طبية.
في مدينة حلب (شمال) التي كانت تُعدّ العاصمة الاقتصادية للبلاد وجوهرة تراثية كونها واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، تمّت تسوية أحياء عدة بالأرض.
حوَّل قمع النظام السريع للاحتجاجات، ومن ثمّ تصاعد نفوذ الفصائل المتطرفة الذي عززه الإفراج الجماعي عن مقاتلين من تنظيم القاعدة من السجون السورية، الانتفاضة السورية إلى حرب مدمرة.
ونجح العنف المفرط في أداء تنظيم “داعش” وقدرته على جذب مقاتلين من أوروبا وخارجها، في زرع الخوف لدى الغرب بشكل قضى تدريجياً على الحماسة المؤيدة للديموقراطية. وانصبّ اهتمام العالم على قتال المتطرفين، متناسيا نضال الشعب السوري، وسرعان ما عاد الأسد ليقدّم نفسه كحصن منيع ضد الإرهاب.
ويقول درويش، وهو من المشاركين في تأسيس لجان التنسيق المحلية التي دأبت على الإعداد وتنظيم التظاهرات في سورية في بداية الاحتجاجات، “أعتقد أننا دخلنا الثورة بكثير من السذاجة.. كنا نتعامل مع الموضوع بشكل عاطفي وشاعري ورومانسي، اعتبرنا أن منظومتنا الأخلاقية وحدها كافية”، مضيفاً “لم تكن لدينا أدوات فيما الآخرون، سواء النظام أم الجماعات الإسلامية، كان لديهم شركاء حقيقيون وإمكانات مالية مهولة”.
ويقول “دخلنا الثورة عراة فيما دخلها الآخرون بكل أسلحتهم وإمكاناتهم”.
وخفت صوت المحتجين سلميا في وقت ذهب الدعم الخارجي إلى لاعبين آخرين، داعمين في معظمهم للنزاع المسلح.
في عام 2012، وصف الرئيس الأميركي باراك أوباما استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية بـ”خط أحمر”. لكن عندما تمّ تجاوز هذا الخط بعد عام عبر هجوم كيميائي استهدف الغوطة الشرقية قرب دمشق، امتنع أوباما عن القيام بتدخل عسكري انتظره كثيرون، وشكل ذلك لحظة حاسمة طبعت عهده وحالت دون توجيه ضربة قوية لنظام الأسد.
وكانت الفصائل المعارضة التي قاتلت تحت رايات عدة وتلقى بعضها تمويلاً وسلاحاً من الخارج، تمكنت في السنتين الأوليين من إلحاق خسائر كبيرة بالجيش السوري الذي أضعفته أيضا الانشقاقات.
إلا أنّ تدخل إيران المبكر والفصائل الموالية لها على رأسها حزب الله اللبناني، ومن ثم التدخل الروسي الحاسم عام 2015، غيّر المعادلات في الميدان تدريجياً لصالح الأسد، بعدما كانت قواته قد فقدت سيطرتها على نحو ثمانين في المئة من مساحة سورية تشمل مدنا رئيسية وحقول نفط. ووصلت فصائل المعارضة إلى أعتاب دمشق.
وبدعم من طائرات وعتاد ومستشارين روس، وبمساندة من مجموعات شيعية موالية لطهران على رأسها حزب الله اللبناني، استعاد الأسد زمام المبادرة، ونفذت قواته حملة انتقامية متبعة سياسة “الأرض المحروقة” لاستعادة المناطق التي خسرتها.
على وقع حصار محكم، قصفت قوات النظام كل معقل أو جيب للفصائل المعارضة، وعاثت فيه دماراً حتى تضمن استسلام المقاتلين المعارضين.
وتصدّرت صور الأطفال المشوهين الذين تمّ سحبهم من تحت ركام أبنية سكنية دمّرتها البراميل المتفجرة والصواريخ، إضافة الى المدارس والمستشفيات التي شكلت هدفاً دائماً للقصف، وسائل الإعلام حول العالم عاماً بعد عام.
في مقابلة مع وكالة فرانس برس في شباط(فبراير) 2016، أكد الأسد أن هدفه ليس أقلّ من استعادة كامل الأراضي السورية. وقال “سواء كانت لدينا استطاعة أم لم يكن، هذا هدف سنعمل عليه من دون تردّد. من غير المنطقي أن نقول أن هناك جزءاً سنتخلّى عنه”.-(ا ف ب)
التعليقات مغلقة.