بين عامين: هموم عربية // د. حفظي اشتية
ها قد هوت الورقة الأخيرة أو كادت، وغاصت عميقاً في بئر من الأحزان، وتهاوت معها آمال كثيرة، وتلفّت القلب نحو عام انطوى، فداهمته ذكرى الوقفة القديمة الأليمة ذاتها، وتسلّل إلى السمع عبر الزمان صوت” حسن الكرميّ” يصدح في إذاعة لندن: ” قولٌ على قولٍ”، فبُعثتْ كلمات هاجعة من مرقدها، فهذا أوان أحزانها، ولاذت الروح المتعبة بخالقها، ونادت: ياربّ وحقك لقد تعبنا!!!
على أطلال أحبّة رحلوا، وقفوا وبكوا، واستنطقوا النؤي وبقايا الأثافي، ونحن نقف على أطلال عام مضى يرحل عنّا ينظر إلينا ويبتسم كفاتنة الموناليزا، فلا نعلم إن كانت ابتسامة السخرية أم الحزن أم الازدراء، أم هي ابتسامة بلهاء انشقت عن صدمة الأهوال!!!
– عالم عربي هو قلب الدنيا، يعوم على معظم مقدّرات الأرض، حباه الله بكلّ مقومات العزّة والحياة، يتحوّل تباعاً إلى مِلل ونِحل، ومِزق وأشلاء، وفِرق شعارها الاقتتال حتى الفناء، وممالك الطوائف تتهاوى، وخيول فيردناند وإيزابيلا تجتاح البقاع، والصغير يقف على تلّة الوداع،يحدّق في قصر الحمراء، يصرعه الحزن، سلاحه البكاء، وأمٌّ تُدمي قلبه بالتبكيت، ولات حين مندم، ويصحو كلّ منّا على جرحه يطلب النصرة من أخيه فيراه مسربلاً بدمائه، وأنين الظمأ يملأ الفضاء، يردّد :
يا نائح الطلح أشباهٌ عوادينا نأسى لواديك أم نشجى لوادينا…
ويدور الكأس على شهداء اليرموك الثلاثة، تتصاعد أرواحهم تترى، والكأس تبقى مترعة!!!
– يا ربّ، وحقّك لقد تعبنا:
يُلقي الحُرّ منّا جسده المتهالك على فراشه يستقطر النوم، ويناجيك أن تكون نومة أبديّة لا يقظة منها إلّا بين يدي رحمتك، فإن قدّرتَ له قياماً من رقود، استيقظ طريح الهمّ، ينصدع وعيه بذكريات القوم يتنادون سراعاً يدقّون بينهم عِطر المنشم، فتتهاوى أقمار الرجال على حقّ مغصوب لفرس لم يسبق، أو ضرع ناقة أصابه سهم أحمق، أو أبله يظنّ نفسه أعزّ العرب، يمدّ رجله في السوق ويصيح متحديأ: مَن يقطعها؟؟!!
وما زالت الحال ذات الحال، وما زلنا نصرخ: يا لثارات بكر أو تغلب!!! وما زال القتال يُردف علينا أعجازه وننوء بكلكله على خلاف سياسي حدث قبل ألف و أربعمائة عام، والأخطار تُحدق بنا جميعاً، بينما الرؤوس الحامية الخرقاء غارقة في الرمال غائصة تسفّ التراب كالنعام!!!
– يا ربّ، وحقّك لقد تعبنا:
ثروات هائلة تتبدّد على حروب عبثية، وحماقات ترفيّة، بينما شباب الأمّة وشيوخها وأطفالها ورجالها ونساؤها تبتلعهم أجواف البحار، أو تلفظهم على الشواطئ لترفضهم دول الأغراب، فتكون حالهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، أو يتصدقون عليهم بالشفقة لتلمّهم الملاجئ، وليغمّسوا فتات الطعام بالكرامة المسحوقة، وذلّ العار، والحنين القاتل للأوطان التي غادروها غصباً، وتركوا فيها وراءهم قلوبهم وأحلامهم، فقد غاصت رَحمات عمر بن عبد العزيز في “بردى”، أو غارت في أعماق كهوف “قاسيون”!!!
-ياربّ، وحقك لقد تعبنا:
ها هم يتوحدون غرب النهر في أقصى أقصى اليمين، ويمضون قُدُما بثبات ويقين محتوم في مخططهم المرسوم بأيدي المستعمرين منذ أكثر من قرن وربع القرن خطوة خطوة…. بينما تتهاوى أوطاننا، وتُنهب خيراتنا، وتُستباح مقدساتنا وأرضنا وسماؤنا وبحارنا، وتُحوَّل جهاراً نهاراً أنهارنا، ونحن ساهون لاهون متهالكون، نتفرّق ثم نتفرّق ثم نتفرّق، ووحدتنا العربية تتجلى شمسا ساطعة، لكنها تائهة ضائعة نبحث عنها فنجدها تتراكض بين أقدام تتراقص بكرة القدم أمامنا، تشفي بعض غليلنا، وتروي قطرة من ظمئنا لأيّ نصر عليهم، وحتى هذه يستكثرونها علينا فيلوّثون عيوننا بلباس بؤسهم في حطين، وكلما نالوا منا رأيتهم يتقافزون في المدرجات نشوة كالمجانين، ولسان حالهم يصيح: عودوا إلى صحرائكم وجِمالكم!!!
– يا ربّ، وحقّك لقد تعبنا:
يسِّرْ لنا ديكتاتوراً في جلبابه ألف ألف حَجّاج، يقودنا كرهاً نحو الخضوع والتوحّد، وتطير رؤوسنا إذا مسسنا حصى المسجد، ونندسّ في فراشنا فوراً بعد صلاة العشاء، لكننا نطير فجراً على صهوات الجياد مع محمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم وعبد الرحمن الغافقيّ، ندقُّ بوابات الهند، ويأتينا تراب الصين مع الجزية في صحاف الذهب، وتردّد صرخات هيعاتنا جبال البرانس في فرنسا ، فذلك أرحم لنا ألف مرّة من ديمقراطياتنا البهلوانية، وتُرّهات مجالس حكماء روما، وغمغماتهم الغبية وتنكيلهم الدائم باللغة العربية، وهجماتهم العرمرميّة التي ما كانت يوماً ذوداً عن حياض الوطن، أو المصالح العامّة، أو للارتقاء بالتشريعات، أو لملمة الثروات، أو مجابهة مصاصي دماء الفقراء، أو إغاثة الملهوفين، وإعالة المحتاجين وتشغيل العاطلين، أو إقامة البنيان الاقتصاديّ على الأركان المكينة، أو التخطيط لحلّ المشكلات المستعصية المتينة، أو النهوض بمستوى المناهج والتعليم والصحة، أو الحفاظ على المساواة بين الناس وحفظ كراماتهم، أو محاربة الفاسدين والظالمين في الإدارات، أو استنهاض عظمة الأمة وإعادة رسم وجودها على الخريطة العالميّة لينشد عمرو بن كلثوم ذات يوم في هيئة الأمم:
ألا لا يجـــهلنْ أحـــد عليــــنا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
ونشربُ إنْ وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينــا
إذا بــــلغ الفِــــطامَ لــنا صبيٌّ تـخرُّ له الجبــــابـر ساجدينـا !!!
– يا ربّ، وحقّك لقد تعبنا:
أنت خلقتنا وزرعت فينا جينات الأعراب العنجهيّة، والحَرَد ورفض الانقياد لبعضنا، وتلك شنشنة نعرفها من أخزم، وأشار إليها ابن خلدون قبل ستة قرون، فأعد لنا مَن يصرخ:
لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا، وعمر بن الخطاب يسمع هذا فيحمد الله، ويعمّ في نفسه الشعور بالأمان والرضا.
وإلّا فعَلّمنا مِن لدنك كيف ننصاع لديكتاتورية القانون العادل الشامل، يسري على الجميع، كما هو شأن دول الخَلق الراشدة العاقلة، فلا نرى في ذلك غضاضة، لأنّ القانون ليس شيخ قبيلة يلزمنا دوماً أن نعلّمه بالنبأ، بينما هو مشغول بقنص أربعة أخماس الغنائم!!!
– يا ربّ، وحقّك لقد تعبنا:
فإن لم تكن هذه ولا تلك، فأرسل علينا طيراً أبابيل تعيد إلينا الصحراء عربية كما كانت، لنعود إلى رَحِمها، ونأنس بوحوشها بعيداً عن بني البشر، ونردّد مع” الشنفرى ” “لاميّة العرب”:
أقيموا بني أُمّي صدور مطيّكم فإني إلى قوم سواكم لأَمْيَلُ
ولي دونكم أهلون سِيد عملّسٌ وأرقطُ زهلول وعرفاء جَيأَلُ (يعني الذئب والنمر والضبع)
– يا ربّ، وحقّك لقد تعبنا…!!!!!!
التعليقات مغلقة.