حرب أكتوبر (1973) ما لها وما عليها/ د. منصور محمد الهزايمة
=
يوافق يوم السادس من أكتوبر(تشرين1) القادم الذكرى الخمسين لأخر حرب شاملة بين العرب وإسرائيل والتي وقعت أحداثها عام (1973م)، وما يميز هذه الذكرى عمّا سبقها هو إفراج إسرائيل عن الكثير من وثاثق الحرب المتداولة بين قادتها، كما تم الحديث عنها باستفاضة عربيا، خاصة من قِبل الجانب المصري ولا سيما المشاركين فيها من السَّاسة والعسكريين. هذه الحرب تميزت بتعدد أسماءها بحسب أطرافها، فمن حرب أكتوبر(مصريّا)، إلى حرب تشرين (سوريّا)، وحرب رمضان (عربيّا)، وعلى الجانب الأخر حرب الكيبور “الغفران” (إسرائيليا)، كما وُصفت تبعا لأهدافها وغاياتها بين الأطراف العربية المشاركة فيها، فقد أرادتها سوريا تحريرا، وكانت غاية مصر تحريكا، علمًا بأنهما نسقّا لها وخاضاها معًا، أي تعددت الأسماء وتباينت الغايات والحرب واحدة. جاءت هذه الحرب بعد ست سنوات من هزيمة ساحقة للعرب في حزيران (67)، ونصر خاطف ونوعي لإسرائيل، حيث توسعت رقعة الدولة الوليدة ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عندما احتلت سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، لتشكل الهزيمة إحباطًا عربيا شاملا شعبيًا وعسكريًا ورسميًا، قابله صلف إسرائيلي بتأثير خمرة النصر، حتى راجت مقولة الجيش الذي لا يُقهر، وحظي جيشها بسمعة عالمية لعظمة الإنجاز. ما بين هزيمة (67) والحرب العربية الإسرائيلية الرابعة (73) حدثت كثير من الأحداث الدراماتيكية على الجانب العربي، وغابت الكثير من القيادات لتظهر قيادات جديدة، أمّا أبرز الأحداث خلال السنوات الست فكانت؛ غياب الرئيس المصري عبد الناصر، ووصول الأسد الأب إلى الحكم في سوريا، وتسلم حزب البعث السلطة في العراق، وظهور قيادات شابة جديدة في كل من ليبيا والسودان، وقيادة جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وجاءت معركة الكرامة أذار (68) التي خاضها الجيش الأردني لتشكل حالة تفاؤل أعادت الثقة والأمل للمواطن والجندي العربي بإمكانية المواجهة بل والانتصار، لتتبنى المنظمات الفلسطينية هذا النصر وتجيره لصالحها، لتتقلب الأحوال بينهما وصولًا إلى حالة الصدام المسلح في أيلول (70)، ويفضي النزاع إلى رحيل المنظمات نهائيا عن أطول جبهة مع فلسطين، وتُرّحَلُ على أثره المنظمات إلى لبنان، لتقع هناك بعد سنوات قليلة فتنة من جديد، لكنّ حرب الاستنزاف التي كانت على الجبهات العربية الثلاث المصرية والسورية والأردنية عكست روحًا عربية لا تخضع، وأدركت إسرائيل أنَّ الأمر لم ينته عند ما تحقق لها في (67). في خضم هذا المخاض، علينا ألا نغفل أن الجهود السياسية لم تتوقف لإعادة إسرائيل إلى حدود ما قبل (67)، لكن هذه الجهود باءت بالفشل، مما ثبتّ أنَّ الحربَ القادمة باتت حتمية الوجوب. تبنت القيادات الإسرائيلية السياسية والعسكرية والدينية قبل حرب (67) نظرية أمنية قامت على مرتكزات أساسية تحكمها طبيعة الدولة الوليدة كما يلي: – إرساء مفهوم “كل الشعب جيش” نظرا لقلة عدد السكان (3مليون)، وللفارق الديمغرافي مع العرب حيث النسبة -آنذاك- (1:40) مما جعل القوات الاحتياطية دائما تزيد عددًا وأهمية عن القوات النظامية. – إنَّ أي حرب يجب ألاّ تصل إلى أراضي الدولة، أو تقترب من حدودها بأي حال لغياب عمق إستراتيجي يحتمل ذلك. – جهاز مخابرات قوي قادر على كشف حركة التشكيلات العسكرية على الأرض، وعلى جميع الجبهات قبل البدء بأي هجوم. – سلاح طيران متفوق على الدوام، باستطاعته الضرب في العمق العربي وبكل اتجاه، ويعمل على إعاقة أي هجوم لو وقع، حتى يتسنى تعبئة قوات الاحتياط، ومن ثَّم القيام بهجوم معاكس. لكنّ اتساع رقعة الدولة بعد (67) أوجب مراجعة هذه النظرية، بحيث أصبح هناك مجالا للحركة والمناورة؛ في الجنوب استنادًا لحاجز سيناء ذات المساحة الكبيرة، والعائق المائي المتمثل بقناة السويس، ومرتفعات الجولان الإستراتيجية شمالا، وغربا مياه نهر الأردن. كان واقع الحال يشير أنَّ العرب يحتاجون لسنوات طويلة لإعادة بناء قوة عسكرية من جديد، تمكنهم من مواجهة عدوهم، لكنّ الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين كانت في ذلك الوقت في أوجها، وكان سباق التسلح على أشده؛ لذلك لجأت أطراف الصراع إليهما، ممّا جعل الطرفين العربي والإسرائيلي كلاهما مجرد لاعبين إقليمين بيد القوى العالمية. أصبح القرار السياسي لدى أطراف الصراع مرهونا بخط الحليف، الملتزم بدوره بميزان المصالح والقوى العظمى، كما دخلت عوامل أخرى مثل مدى القدرة على استيعاب التقنية الحديثة، وقدرة الدولة على دفع ثمن السلاح؛ لذلك خرجت خيارات التسليح بحجمه ونوعه من يد الطرف المحارب. بقي كل طرف يستحث حليفه على الإسراع بتوريد الأسلحة قبل وقوع الكارثة، حتى وصل الكثير منها باقتراب موعد المواجهة، فحظيت إسرائيل بالطائرات الحديثة، مقابل حصول العرب على الصواريخ الحديثة، وبدا أن نتيجة المعركة القادمة ستكون مرهونة بلعبة طائرة-صاروخ، لكنّ الأمريكان كانوا أكثر كرمًا والتزاما مع حليفهم من السوفيات حليف العرب. بقي شبح الهزيمة ماثلا في أذهان العرب حتى حينه، لذلك بذلوا جهودًا جبارةً لردم الهوة، وكان التركيز على تحقيق التكافؤ في المجال الجوي خاصة، ومن ثم تحقيق المفاجأة للعدو، لتنعكس اللعبة، حيث كان العدو هو الذي يفاجأ العرب في الحروب السابقة، فكان العمل على التخطيط العسكري العلمي بمساعدة الحلفاء، وأثارت سرية الحرب الإعجاب من الجميع، كما أنَّ الخداع الذي مارسه الرئيس السادات عندما كان يُعلن منذ استلامه السلطة كل عام أنه سيكون عام الحسم ليمر كمواعيد عرقوب، ما جعل إسرائيل تنعم بالاسترخاء، وليتحمل السخرية محلّيا وعربيّا وخاصة من الناصريين، ، حيث كان الرئيس عبد الناصر يذهب للحرب علنا، وكأنه يدعو لحضور حفلة مصارعة أو نزال ملاكمة، لذلك لم يحقق أي انتصار في حياته. (في رواية نجيب محفوظ أمام العرش، تنعقد محكمة أخروية لحكام مصر من عهد مينا إلى السادات أمام الرب اوزوريس الأرضي، فمحكمة عبد الناصر تسبغ عليه آيات الثناء، لكنّ الفراعنة يوبخونه: “على الرغم من نشأتك العسكرية، لكنك لم تنتصر بمعركة واحدة، ولم تكن قائدا بحال من الأحوال” وأخيرا يقول له الرب: “قليلون قدّموا مثلما قدّمت، وقليلون أساؤوا مثلما أسأت” وفي الخلود يعاتب عبد الناصر السادات: كيف هان عليك أنْ تنقلب عليَّ بعد موتي؟! فيجيبه السادات: كنت مضطرًا، إذ كان جوهر سياستي يقوم على تصحيح الأخطاء التي ورثتها عنك). في يوم السبت السادس من تشرين1 الموافق العاشر من رمضان لعام (73) ، وفي الثانية ظهرا، شنت كل من مصر وسوريا هجوما في الوقت ذاته جوا وبرا، مستفيدين من احتفال اليهود في عيدهم المقدس، فهم جالسون في بيوتهم، صائمون متأملون، ملتزمون بحرمة العمل فيه، لتقع الصدمة المذهلة لديهم شعبا وجيشا، وتأتيهم الأنباء عن عبور المصريين قناة السويس وتدمير خط بارليف، وعن تقدم الجيش السوري في جبهة الجولان حتى وصل في الأيام الأولى لبحيرة الحولة حيث الحدود مع فلسطين، وهنا بدأت لعبة صاروخ – طائرة، حيث تحقق لصواريخ سام أرض-جو السيطرة، وأثارت الرعب لدى الطيران الإسرائيلي لدقتها، مما أفقده الدور المزدوج المنوط به من حيث صد الهجوم، أو تأخيره، لحين جلب الاحتياط، كما أنه لم يعد قادرا على ضرب أهداف حيوية في العمق المصري أو السوري، بعد أن كان هذا الطيران وحتى نهاية عام (69) يسرح ويمرح في أجواء مصر وسوريا والأردن وقتما شاء وكيفما شاء، (يذكر سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الحرب في مصر-آنذاك-في مذكرات الحرب حادثة غريبة، إذ أن الطيران الإسرائيلي أغار على محطة رادار في منطقة البحر الأحمر (70)، ولم يكتف بذلك بل قام بفك الرادار وحمله وعاد به من حيث أتى دون تدخل مصري لانعدام وسائل الرد). بدأت الحرب في الموعد المذكور -آنفا-، وتقدم العرب على الجبهتين، وحققوا نتائج مهمة من خلال عامل المفاجأة، وشبكة الدفاع الحديثة من صواريخ سام، التي أفقدت الطيران الإسرائيلي عنصر المبادأة، وسلبته الهيمنة في الجو، مما أخرّ تعبئة الاحتياط لديهم، لكن سرعان ما بدأ الانكفاء العربي أمام الهجوم المعاكس، أولا على الجبهة السورية، بحيث فقد السوريون إنجازاتهم على الأرض اعتبارا من اليوم الرابع للحرب، بل خسروا أراض جديدة، وبدا أن العاصمة دمشق باتت في مرمى التهديد، لولا تدخل القوات العربية العراقية والأردنية اعتبارا من اليوم الخامس للحرب. على الجبهة المصرية استمر التقدم المصري في الأسبوع الأول، وفي اليوم التاسع بدأت الخسائر تتزايد، ثم نشأت ثغرة الدفرسوار بين الجيشين الثاني والثالث بدخول قوة إسرائيلية إلى غرب القناة، لتتطور الثغرة إلى تطويق الجيش الثالث (45000 رجل)، وقطع طرق الإمدادات عنه، بل تصبح بعض المدن المصرية مثل السويس والاسماعيلية معرضة للتهديد، وعندها بدأ الابتزاز الأمريكي والإسرائيلي، بحيث زادت الضغوط على أعصاب القيادة السياسية والعسكرية حد الاختلاف والتراشق بالاتهامات، ليبادر الرئيس المصري بالاتصال بالقوى العظمى للضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار، ويقال أن السوفيات هددّوا بالتدخل المباشر في الحرب إذا لم تتوقف إسرائيل عن اطلاق النار، والذي بدأ اعتبارا من يوم 24 تشرين 1 أي بعد مرور (18) يوم من بدء الحرب. فلماذا انقلبت الأمور لصالح إسرائيل بعد ترنحها في الأيام الأولى وكانت على حافة الهزيمة؟ يذكر كيسنجر وزير خارجية أمريكا-وقتذاك- أن الجسر الجوي الأمريكي أنقذ إسرائيل، كما أن اختلاف نوعية السلاح لدى العرب وعدم التنسيق بين الجيوش العربية ميدانيا لعب دورا في الانِكفاء. يُحكم على النصر أو الهزيمة في الحرب تبعا لما أنجزته من الأهداف المرسومة لها مسبقا، فعلى الجبهة السورية لم يتحقق شيء ذو قيمة، بل خسرت أراضٍ جديدة، لكنها أُعيدت بعد فك الاشتباك، كما لم تتحقق أهداف الجبهة المصرية، وعادت سيناء أخيرا بالمفاوضات بعد سنوات، وبدأ تراشق التهم بين الأطراف العربية قبل انتهاء الحرب، فالسوريون اتهموا الرئيس السادات بالخداع، بل يقال بأن الرئيس الأسد وصف الثغرة باللعبة السياسية من الرئيس السادات، أي لم تكن النيات صادقة، وخط السادات ما بعد الحرب أوحى بتبدل النوايا، إذ كان ظاهرا يحارب إسرائيل وباطنا يسعى للتفاوض مع أمريكا واستبدال السوفيات الذين حارب بسلاحهم وقفل العراقيون إلى بلدهم غاضبين معترضين على وقف إطلاق النار. رغم نتائج الحرب المتواضعة، إلا أنه أحاط بهذه الحرب ما أثار الإعجاب، وهو ما صاحب الإعداد لها من السرية المطلقة، وحركات الخداع العسكري والسياسي، وما رافقها من حالة تضامن عربية لم يسبقها أو يتبعها مثيلٌ لها حتى اليوم، لقد احتفى العرب بهذه القيم أكثر ممّا تحقق على صعيد الأهداف المرسومة لها. تسابق العرب في تقديم الدعم والمساندة على الجبهتين؛ فحضرت قوات عراقية وأردنية ومغربية لتساهم في الحرب على الجبهة السورية، وعلى الجبهة المصرية حضرت قوات جزائرية وعراقية وليبية وسودانية وتونسية وكويتية، لتتحقق قومية النضال -حقا- بامتزاج الدم، كما أُسُتخدم سلاح النفط لأول مرة في الضغط على المؤيدين لإسرائيل، وقدّمت دول أخرى دعما ماليا مؤثرا، ومما يذكر أنَّ المرحوم هواري بومدين ذهب لموسكو حاثا إياهم على تزويد مصر وسوريا بما تحتاجانه من أسلحة، مقدما لهم 200 مليون دولار في حسابات ذلك الزمن، أمّا اليوم فبتنا نترحم على روح التضامن العربي، والحسّ القومي الصادق. الدوحة – قطر
التعليقات مغلقة.