ذيبان تنتصر على ممالك إسرائيل / د. حفظي اشتية
=
ــ حزينة هي ذكريات حزيران، تعاقب سبعة وخمسون حولا كريتا، فما زادها كرّ الأعوام إلا تبدد آمال وتجدد آلام، وبقي طعم مرارتها غائرا في الأذهان، وبقي هول صدمتها صادعا للقلوب، يزعزع هدوء النفس، ويزلزل أعماق الوجدان.
ــ سبعة عشر عاما فصلت بين أيار النكبة وحزيران النكسة، طغى فيها جموح الخيال وسحر الأوهام على جمر الواقع وحرقة الحقائق. غاب فيها الإعداد الجاد والحكمة الوازنة والحسابات الدقيقة، فكثرت الأقوال واضمحلت الأعمال، وتسلحنا بالأغاني الحماسية، وتهيأنا لاحتفالات النصر قبل الميعاد، وتناقل السمك وعودنا فتكاسل وكاد أن يموت جوعا….وما هي إلا ساعات معدودات عصيبات، أفقنا بعدها على حقيقة مرّة مريعة تفتت لها الأكباد. ضاعت أجزاء جديدة واسعة عزيزة من الأرض العربية، وضاعت سيدة المدائن التي كانت قد سلمت في النكبة وحافظت عليها الوصية الأثيرة للبواسل الموتورين، أن قاتلوا حتى الرجل الأخير والرصاصة الأخيرة. وسطّر سِفر التاريخ الدفاع المجيد للأبطال عن كل ذرة من ترابها الطهور، وتكفي الإشارة إلى أن مائة أسد هصور من كتيبة واحدة في تل الذخيرة واجهوا الجحافل في غياب كل تكافؤ للفرص، واختلال كل معايير القوة إلا قوة الإيمان بالله والحق المقدس، فتهاوت الهامات في مرابضها لم تتزحزح قيد أنملة، وارتقت أرواحها تحفّها الملائكة تشهد لها عند ربها العليم بجهادها العظيم.
ــ ومن رحم الأحزان تتناسل الآمال، ونستلهم عِبر التاريخ، لنبدأ دورة الزمان من جديد.
عَبَر الغزاة نهر الأردن قبل تسعمائة عام من ميلاد المسيح عليه السلام، وعاثوا فيها فسادا واستعبادا، وفرضوا جزية بمئات آلاف الأغنام هي ثمرة عرق المؤابيين الكادحين تساق إلى ملوك بني اسرائيل المترفين المستبديّن.
وصهرت الآلام قلوب الأحرار في السفوح الشرقية للبحر الميت، والكرك، والربة، وذيبان، ومادبا، وحسبان. ولاذوا بملكهم الهمام ” ميشع “، الذي صبر صبر الجمال، لكنه بدأ يُعد العُدة للجولة الحتمية القادمة، وانتظر الفرصة السانحة، فجاءته منقادة حين تجرأ ملك إسرئيل ” عَمري ” فطلب من ميشع أن يرسل إليه ابنته زوجة مع الجزية السنوية، إمعانا في الإذلال والامتهان، فغلت الدماء العربية في شرايين ميشع ورجاله، فمنعوا الجزية، وتقاسموا أن يدافعوا عن وطنهم وشرفهم حتى الموت الزؤام.
جُنّ جنون عَمري عندما رُفض طلبه ومُنعت عنه الجزية، فسارع إلى توحيد ممالك إسرائيل المتفرقة، فاتحدت ممكلة إسرئيل وعاصمتها السامرة” سبسطية “، ومملكة يهوذا وعاصمتها أورشاليم ” القدس “، وممكلة آدومية في النقب وبئر السبع، وتجمعت جيوشهم وأحقادهم، وتجنبوا السير في الطرق السالكة المتوقعة، واتجهوا جنوبا ليخلّفوا البحر الميت على شِمالهم، ويجتاحوا مؤاب من أقصى الجنوب إلى الشَّمال.
تهالك الجيش الغازي على الطريق، ونال منه الحر الشديد والظمأ الذي لا يرحم، ووجدوا في انتظارهم أسود الشرى تتلظى منها القلوب حقدا دفينا وشوقا عارما للثأر والتحرر، فكانت الجولة الأولى لإظهار بأسهم والنيل من أعدائهم رغم اختلال الميزان في العدد والعتاد، ودُقت عنق “يهوشافاط” ملك يهوذا، ورسمت دماؤه معالم الهزيمة المنتظرة الأليمة.
عاد الأسود إلى عرائنهم الأمينة المكينة، وتحصنوا في شواهق الجبال.
زحف الغزاة شرقا، فكانت في انتظارهم ” الربّة ” التي ظنوها لقمة سائغة سهلة، فكمن لهم الموت في كل ركن من أسوارها، وظهرت براعة العربي المؤابي في فنون الخدع الحربية، والمقاومة الباسلة والصمود والفتك بالخصوم، وانتثرت جثث الأعادي تملأ الرحب، وتعالى أنين جرحاهم، فتخاذلوا وتراجعوا ولملموا أذيال الخيبة، وانتصرت الربّة.
تحركت الذئاب العادية الجريحة شَمالا بحثا عن انتقام أو نصر يعيد بعض الكرامة، فكانت جنبات وادي الموجب ميدانا جديدا يذيق فيه المؤابيون أعداءهم المغرورين كؤوس الذُل المترعة بالهوان، وردد الوادي أصداء زئير الأسود المدافعين، وعواء الذئاب التي تلعق جراحها.
وعلى أسوار حشبون ” حسبان ” كانت الوقعة الدامية : مهاجمون معتدون يحاصرون المدينة الباسلة في معركة تراءت أمامهم الفرصة الأخيرة للنصر والحياة، أو الانحدار والهلاك. وخلف الأسوار مدافعون حماة أباة قد علموا يقينا أنهم في مواجهة أخيرة نتيجتها عز ومجد وحياة وخلود، أو تجرّع جديد للمزيد من الذل والمهانة والاستعباد.
طال الحصار، وطال العذاب، وطال الصبر والانتظار، وتجلّت مظاهر البطولة الخارقة والاستماتة في الدفاع. ثم كانت اللحظة الفارقة التي انصدعت لها القلوب : لقد ضحّى الملك ميشع بابنه الوحيد وولي عهده الفريد، فقدمه قربانا على أسوار حسبان، وضرب بذلك أروع الأمثلة وأصدقها وأنبلها وأمجدها في دفاع الملوك عن أوطانهم.
تعالت صيحات الأبطال من الألم، وزغاريد النساء من هول الصدمة وقسوة المشهد الفاجع، فكانت الجولة الأخيرة الساحقة الماحقة التي صبغت الأرض بدماء المعتدين، وتصدعت جموعهم، وأُسر ملوكهم وقادتهم، وسُخّر جنودهم لتعمير ما خربّوا، وفلاحة الأرض وخدمة أحرارها.
وخلّد الملك المؤابي الأبي هذا النصر المؤزر في مسلة صمدت حوالي ثلالة آلاف عام، زرعها في ديبون ” ذيبان ” عاصمة مملكته العتيدة ( المسلة الآن في متحف اللوفر ويجب العمل على استعادتها إلى بيئتها الأردنية وأمها الحقيقية ) لتُخبر الدنيا عبر كل زمان، أن هذه الأرض عربية عصية على العلوج، وإن كان للأعداء جولة، فقد كان وسيكون للعرب والمسلمين ألف صولة وجولة، وما يوم الكرامة عنا ببعيد!!
ملاحظة : استوحيت المقالة من أسفار التاريخ، ومن رواية ” قربان مؤاب ” لمؤلفها الفذّ د. يحيى عبابنة.
التعليقات مغلقة.