سعة رحمة الله وموجباتها
سعة رحمة الله تبارك وتعالى
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ –رضي الله عنه– قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبَ ثَدْيُهَا تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ وَأَرْضَعَتْهُ، فَوَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ.. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟” قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا”
الله أرحمُ بعباده من هذه بولدها، ولقد كان رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرصد هذا الموقف الإنساني المؤثر عن قرب، وقدم من خلالِه للأمة معنًى هائلاً خلاباً.. ودرساً رائعاً جذاباً.. تعجزُ العباراتُ عن بيانه وإظهاره.. فلقد رأى الصحابةُ الرحمةَ بأجملِ صورِها وأبها حللِها.. وأكثرِها تأثيراً وبياناً وأعلاها فيضاً وحناناً.. إنه مشهدٌ حي تجلت فيه رحمة الأمِ بوليدها.. الرحمة التي لا يمكن أن يرى البشرُ أعظمَ ولا أحنى منها فيما بينهم..
ثم جعل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا المشهدَ المؤثرَ دليلاً على ما لا نستطيعُ أن نُقَدِّرَ حجمه من رحمه الله سبحانه وتعالى لعباده..
لقد أمرنا ربنا -تبارك وتعالى- أن نلهج في كلِ ركعةٍ من ركعات صلاتنا بل نبتدئ في كل أمر من أمور ديننا ودنيانا باسمين من أسمائه الحسنى –الرحمن الرحيم- قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: “اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعةِ العظيمةِ التي وسعت كلَ شيء، وعمَّت كلَ حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمةُ المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيبٌ منها.. وقال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: “الرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيمُ ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن وصفه والرحيم فعله”.
الرحمة كتابٌ كتبَه اللهُ على نفسِه وأمرَ نبيه أن يبلِّغَه للناس فقال: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 54] سبحانك ربي ما أرحمك.. سبحانك ربي ما أعظمك ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7].
الرحمة سمةُ الربوبية.. وعنوان الإلوهية، ولذلك وصف نفسه بها، فقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ بِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ بَيْنَهُمْ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ»
وفي رواية عنده قَالَ: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» عن أَبَي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-..
الرحمة كمال بشري في القلوب الحية
الرحمة أيها الإخوة: كمالٌ في الطبيعة البشرية تجعلُ المرءَ يرقُّ لآلام الخلق فيسعى لإزالتها.. كما يسعى في مواساتهم، كما يأسى لأخطائهم؛ فيتمنى هدايتهم، ويتلّمس أعذارَهم..
الرحمة صورةٌ من كمالِ الفطرةِ وجمالِ الخلق، تحملُ صاحبَها على البرِ.. وتهبُّ عليه في الأزمات نسيماً عليلاً تترطَّبُ معه الحياة، وتأنسُ له الأفئدة.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»
ورحمة الله سببٌ واصل بين الله وبين عباده، بها أرسلَ رسلَه إليهم، وأنزلَ كتبَه عليهم، وبها هداهم، وبها يُسْكنهم دار ثوابه، وبها يرزقُهم ويعافيهم ويُنعمُ عليهم، فبينهم وبينه سببُ العبودية، وبينه وبينهم سببُ الرحمة.. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:57،58].
أفضل ما تستجلب به رحمة الله
الرحمة تحصل للمؤمنين المهتدين بسبب هداهم، فكلما كان نصيبُ العبدِ من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر.. فبرحمته سبحانه شرع لهم شرائع الأوامر والنواهي، بل برحمته جعل في الدنيا ما جعل من الأكدارِ حتى لا يركنوا إليها فيرغبوا عن نعيم الآخرة.
وأرسل نبيه محمداً بالرحمة، فهو نبي الرحمة للعالمين أجمعين.. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]؛ بعثه ربه فسكب في قلبه من العلم والحلم، وفي خُلُقِه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى ما جعله أزكى عبادِ الرحمن رحمة، وأوسعَهم عاطفة وأرحبَهم صدراً، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:159]، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:128].
والإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها، دعا إلى التراحم، وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان، فالمسلم يلقي الناس وفي قلبه عطف مدخور، وبر مكنون، يوسع لهم، ويخفف عنهم، ويواسيهم، قَالَ: اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرَاحَمُوا، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا رَحِيمٌ، قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ النَاسِ رَحْمَةٌ الْعَامَّةِ»
وليس المطلوب قصر الرحمة علي من تعرف من قريب أو صديق، ولكنها رحمة عامة تسع العامة كلهم، وأحاديث رسول الله تبرز هذا العموم في إسداء الرحمة، والحث على إفشائها وانتشارها.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ»
وفي رواية: «مَن لا يَرحمِ الناسَ لا يَرحمْهُ اللهُ». قَالَ ابن بطال -رحمه الله-: “في هذا الحديث الحض على استعمال الرحمة للخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والمساعدة في الحمل وترك التعدي بالضرب” اهـ.
ونزع الرحمة من الإنسان علامةُ الشقاء، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِن شَقيٍّ» الرحمة كمال بشري في القلوب الحية رواه أبو داود والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وحسنه الألباني.
ورحمة الله تُستجلب بطاعتِه وطاعةِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والاستقامةِ على أمر الإسلام ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132] كما تستجلب بتقوى الله ﴿..وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات:10] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد:28] أي: نصيبين من الأجر لا يعلم وصفهما وقدرهما إلا الله تعالى والتثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى.
ومما يجلب رحمة الله إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:71].
والاستغفار سببٌ من أسبابِ نزول الرحمة فالعبد بذنوبه وتقصيره فقير إلى رحمة الله قال سبحانه ﴿..لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النمل:46]، فإن رحمة الله –تعالى- قريب من المحسنين والتائب من الذنوب هو من المحسنين..
ومما تُنال به رحمة الله الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ويشمل الإحسان للآخرين، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف:56]. قال السعدي: “أي: في عبادة اللّه، المحسنين إلى عباد اللّه، فكلما كان العبد أكثر إحساناً، كان أقرب إلى رحمة ربه، وكان ربه قريبا منه برحمته، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى”.
الحث على التخلق بخلق الرحمة مع المخلوقات
ومن أعظم ما تستجلب به رحمة الله : الرحمة بعباده، ففي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»
و إن المؤمن قويَّ الإيمانِ يتميّزُ بقلبٍ حيٍ مرهفٍ لينٍ رحيمٍ، يرقُّ للضعيفِ، ويألمُ للحزينِ، ويحنُّ على المسكينِ، ويمدُّ يدَه إلى الملهوف، وينفرُ من الإيذاء، ويكرهُ الجريمة، فهو مصدر خيرٍ وبرٍ وسلامٍ لما حولَه ومِنْ حَولِه.
وكالات
التعليقات مغلقة.