“طالبان” تخرج من عباءة الماضي بقيادة “أخوند زاده”
طالبان تدخل كابول من جديد للمرة الثانية في نحو عشرين عاما، لكن هذه المرة تدخل العاصمة ومعظم المدن التي سقطت أمامها مثل أحجار الشطرنج أو الدومينو بشكل لا يصدق، متسلحة بدروس تعلمتها من تجربتها الأولى.
لن تصطدم بالعالم ولن تخيف أحد، وستكون حركة براغماتية تبحث عن تدعيم أركان سلطتها التي انهارت بعد أن أصرت على عدم تسليم إسامة بن لادن والتنكر له.
طالبان حركة دينية سنية تتبع المذهب الحنفي، عمودها الفقري طلاب العلوم الشرعية.
ولدت “طالبان” على يد الملا محمد عمر عام 1994، الذي عمل على تجنيد طلاب المدارس القرآنية والشباب من مخيمات اللاجئين في محاولة لحفظ الأمن، وهم الذين عرفوا باسم “طالبان” أي طلاب العلم.
ولم تكن للرجل أو جماعته في البداية أي اهتمام بالسياسة أو السيطرة والنفوذ، وتفرغ بشكل كامل للقضايا التي تعنى بالدين الإسلامي.
بعد سقوط ما كانت تسمى “الجمهورية الديمقراطية الأفغانية” المدعومة من قبل الاتحاد السوفييتي عام 1992 بأيدي “المجاهدين” الذين لم يكونوا يدا واحدة، وكانوا متعددي الولاءات المحلية، تردت الأوضاع في أفغانستان وشاعت الفوضى.
وفي عام 1994، شاع خبر اختطاف واغتصاب فتاتين أفغانيتين عند إحدى نقاط السيطرة التابعة لإحدى الفئات الأفغانية المتناحرة في قرية قرب قندهار، ووصل إلى الملا عمر الخبر فألف قوة من 30 رجلا ونجح في تخليص الفتاتين وقام بتعليق قائد عملية الخطف والاغتصاب على المشنقة. من هذه اللحظة، ولدت “طالبان” بعد إضفاء نوع من “العدالة والأمن” بين القرويين الذين كانوا يبحثون عن “بطل”.
وبعد الحادثة غادر الملا عمر إلى “بلوشستان” في باكستان، وبعد فترة غياب قصيرة ظهر من جديد في أفغانستان برفقة 1500 من الرجال المسلحين، بهدف توفير الحماية لقوافل التجار الباكستانيين لعبور الأراضي الأفغانية مرورا إلى تركمانستان، إلا أن التقارير كانت تفيد بأن هذه القوافل لم تكن إلا مقاتلين متخفين.
وسيطرت “طالبان” على قندهار وما حولها وتمكنت من السيطرة على مدينة هيرات عام 1995.
وفي شتاء نفس العام، حاصرت الحركة العاصمة كابول ولم يتمكن رئيس أفغانستان برهان الدين رباني وغريمه ومنافسه التقليدي قلب الدين حكمتيار المتناحرين من الصمود فغادرا كابول، واتجها شمالا وتخليا عن العاصمة التي وقعت في يد “طالبان” التي تسلمت مقاليد الأمور في كابول وأنشأت “إمارة أفغانستان الإسلامية”.
وينتمي معظم أفراد “طالبان” إلى القومية البشتونية التي تتركز في شرق وجنوب البلاد ويمثلون حوالي 48% من السكان البالغ عددهم قرابة الـ27 مليون نسمة. وهي حركة عقائدية تقوم على الأخذ بمبادئ متشددة في تفسير الدين الإسلامي.
وتعتبر “طالبان” الحكم الشرعي حكما واحدا لا يحتمل الأخذ والرد حوله، ومن ثم يصبح تنفيذ الأحكام الشرعية لدى “طالبان” حتى وإن كانت هناك مذاهب أو آراء أخرى تخالفها واجبا دينيا لا مفر من تنفيذه.
وقد تعلم أفراد الحركة في مدارس دينية ركزت على العلوم الإسلامية كالتفسير والحديث والسيرة إضافة إلى بعض العلوم العصرية التي تدرس بطريقة تقليدية قديمة.
يتدرج الطالب في هذه المدارس من مرحلة إلى أخرى، وفي الأخير يقضي الطالب عاما يتخصص فيه في دراسة علوم الحديث وتسمى “دورة الحديث”، وتتغير مرتبة الطالب العلمية من مرحلة إلى أخرى، فيطلق عليه لفظة “طالب” التي تجمع في لغة البشتون على “طالبان” ثم “ملا” وهو الذي قطع شوطا في المنهج ولم يتخرج بعد، وأخيرا “مولوي” وهو الذي أكمل المنهج وتخرج من دورة الحديث ووضعت على رأسه العمامة وحصل على إجازة في التدريس.
بعد وصول “طالبان” إلى كابول، انتخب الملا عمر بالإجماع أميرا للحركة رسميا ولقب بـ”أمير المؤمنين”، واعتبرته الحركة “أميرا شرعيا” لها، له في نظر أتباعها جميع حقوق “الخليفة”، فلا يجوز مخالفة أمره، وقد حجبوه عن أنظار العامة ليحافظوا على “هيبته” بينهم.
واعترفت باكستان بـ”طالبان” كحكومة شرعية في أفغانستان وتلتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وفي عام 2001، أثار الملا عمر زوبعة عالمية عندما أصدر أمرا بهدم التماثيل البوذية القابعة في مدينة باميان لأنها أصنام تناقض التعاليم الإسلامية، وفقا لبيان “طالبان”، ولم يعر الملا عمر بالا للمطالب بعدم هدمها كونها معالم أثرية.
ونتيجة ضغوط دولية من أطراف عديدة سحبت كل من السعودية والإمارات اعترافهما بحكومة “طالبان” ما ترك باكستان الدولة الوحيدة التي تعترف بها.
ولم يأت عام 2001 على نهايته حتى قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان لرفض حركة “طالبان” تسليم أسامة بن لادن بعد اتهامات أمريكية بتورط ابن لادن في تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، وقامت قوات “تحالف الشمال” بخوض معارك برية واحتلت أفغانستان وأزاحت حركة “طالبان” من الحكم.
ومع سقوط “طالبان”، اختفى الملا عمر، ولم يعرف عنه شيء منذ ذاك الوقت، وذكرت مصادر متطابقة أن الملا عمر لجأ إلى باكستان بعد سقوط نظام حكمه عام 2001.
لكن وعلى نحو مفاجئ أعلن أن الملا عمر توفي في مستشفى في كراتشي بباكستان عام 2013 في ظروف غامضة.
وقطعت “طالبان” الشك باليقين حين أعلنت انتخاب الملا أختر محمد منصور شاه محمد، المعروف اختصارا بالملا منصور، بعد أن اختاره الملا عمر نائبا له عام 2010، وقام بقيادة “طالبان” بالنيابة وشغل المنصب رسميا عام 2015.
وكان عدد من كبار قادة “طالبان” رفضوا مبايعة منصور، معتبرين أن عملية تعيينه كانت متسرعة ومنحازة. كما أن عديدين كانوا مستائين من إخفاء وفاة الملا عمر لعامين، وكانت تصدر بيانات سنوية باسمه خلال تلك الفترة.
ولعب منصور دورا فاعلا في تنظيم مباحثات السلام بين “طالبان” والحكومة في كابول.
وكثيرا ما كان ينظر إلى تعيين منصور “المعتدل” باعتباره انتصارا لباكستان التي شجعت على خوض مفاوضات السلام مع كابول.
ولم يوضع منصور أمام أي اختبار حقيقي فقد قتل عام 2016، في غارة أمريكية بطائرة بدون طيار في باكستان، ولتجنب أي خلافات داخل “طالبان” اختير نائبه هبة الله أخوند زاده زعيما لـ”طالبان”.
وأثار اختيار المولوي أخوند زاده انتقادات حادة من فصائل معارضة داخل “طالبان” كانت معارضة لمنصور أيضا.
وبعد مرور 20 عاما على الحرب في أفغانستان، انسحبت القوات الأمريكية من البلاد، واستعادت “طالبان” الأراضي التي كانت خارج سيطرتها بوتيرة متسارعة وانهار أمامها الجيش الأفغاني الذي بناه الأمريكان “جندي جندي”
كثرت التحليلات التي تناولت الجهات الخارجية التي كانت وراء إنشاء “طالبان” وبروزها على مسرح الأحداث، بعضها ينسبها إلى المخابرات الباكستانية، والبعض الآخر ينسبها إلى المخابرات الأمريكية إبان الحرب الأفغانية السوفياتية، والحركة تنفي عن نفسها كل ذلك، وتؤكد أنها نتاج أفكار الملا عمر.
لا تتمتع “طالبان” بتنظيم قوي، إذ لا يوجد هيكل إداري واضح ولا لوائح تنظم شؤونها الداخلية وبرامجها، ولا حتى بطاقات عضوية توزع على الأعضاء لتسجيلهم.
وتقول “طالبان” إنهم ليسوا حزبا فلا يهتمون بالنظام الإداري التنظيمي، بل يريدون أن “يخدموا الشعب” كله عن طريق تفعيل الدوائر الحكومية.
وبالرغم من مجالس الشورى الكثيرة التي أنشأتها الحركة إلا أنها تؤمن بأن الشورى معلمة وليست ملزمة، فالقرارات المهمة يتخذها رئيس الحركة بالاستئناس بآراء أهل الشورى، وله الحرية الكاملة في الأخذ بآراء مجلس الشورى أو رفضها.
ويتفاوت موقف الحركة من الدول المجاورة، فبالنسبة لإيران تميزت العلاقة بينهما بالتوتر الشديد، فالحركة تتهم إيران بالعمل على تصدير المذهب الشيعي إلى أفغانستان ودعم أحزاب المعارضة، بينما تتهمها إيران باضطهاد الأقلية الشيعية الموجودة هناك.
أما بالنسبة للموقف من الهند وروسيا وبعض دول آسيا الوسطى فإن هذه الدول لا تخفي قلقها تجاه “طالبان” لكنها أبدت موقفا لينا بعد تأكيد سيطرة الحركة على كامل البلاد، فالهند ترى أن “طالبان” تشكل عمقا استراتيجيا لباكستان وتفتح أمامها أسواق آسيا الوسطى، بينما تخشى روسيا وحلفاؤها في آسيا الوسطى من نفوذ الحركة، و”طالبان” بدورها لا تخفي عداءها لهذه الدول.
وبعد التقدم السريع لها وسيطرتها على الأرض، وعدم “ممانعة” واشنطن في ذلك، فقد أكد زعيم “طالبان” أخوند زاده في بيان بمناسبة عيد الأضحى أنه “يؤيد بشدة” الوصول إلى تسوية سياسية للنزاع في البلاد، وهو ما فشل فيه الرئيس أشرق غني الذي فر من البلاد بعد أن قادها نحو الهاوية.
وقال أخوند زاده: “بدل الاعتماد على الأجانب، دعونا نحل مشكلاتنا فيما بيننا وننقذ وطننا من الأزمة السائدة”. وأضاف “نحن من جهتنا مصممون على التوصل إلى حل من خلال المفاوضات، لكن الطرف الآخر يواصل إهدار الوقت”.، وقد أكدت الأحداث صواب كلامه.
وتعهد زعيم “طالبان” في رسالته بأن حركته تريد علاقات دبلوماسية واقتصادية وسياسية “جيدة ووثيقة” بجميع دول العالم بما فيها الولايات المتحدة”. وقال: “نؤكد بالكامل لدول الجوار والمنطقة والعالم أن أفغانستان لن تسمح لأي كان بتهديد أمن أي دولة أخرى انطلاقا من أراضيها”.
العالم يترقب ما ستقوم به طالبان بحذر، فيما يبدو أن طالبان ماضية في الاستفادة من تجربة حكمها السابقة ولن تقع في أخطاء الماضي الذي يبدو أن قادة الحركة وضعوه في زجاجة وألقوا بها في عرض البحر.
علي سعادة/ السبيل
التعليقات مغلقة.