عماد العدوان والغزيّة الراشدة/ د. حفظي اشتية
=
-لا أعرفه شخصيا، ولست على اطلاع كافٍ بتفاصيل حكايته، أو أهدافه، أو نيّته. وما رشح من معلومات لا يسعف في فهم عميق، أو استيعاب واعٍ، أو إدراك دقيق، لما نتمناه صادقين له من نبل مقاصده، وعدالة قضيته.
-لكنني أعرف ظلم وجبروت من احتجزه، وعدوانه، وسلبه لدرّة الأوطان، وتشريد أهلها في فاجعة إنسانية قلّ نظيرها في التاريخ البشري قديمه وحديثه، واستمرار عصفه بالصامدين الصابرين المرابطين، واستفراده بهم مع ضعف حيلتهم وندرة ناصرهم، واستفزازه لمشاعر العروبة والإسلام بالبطش بالحرائر، وانتهاك المقدسات المستمر.
وأعرف نقاء الدم العربي يجري في شرايين أبناء قبيلة عماد، وتنشئتهم في المهاد على نصرة الصريخ الضعيف، وإغاثة المغلوب الملهوف، وجبر الخاطر الكسير، وفزعة الإباء للحرّة المستضعفة المستغيثة، ونخوة العزم الصادق لحماية الجار والقصير.
-وأعرف أنّ تلك من شيم القبائل والعشائر الأردنية منذ كانت، وما زالت، تقودها فراستها الفطرية إلى إدراك بصير بوحدة المصير بين الضفتين التوأمين، وأنّ إخوانهم في الجانب الغربيّ من الوطن يردّون عنهم رغم حصارهم وعزلتهم عوادي الزمن، ويصدّون هجمة تلمودية جائحة لا ترحم، تؤمن إيماناً يقينياً أعمى أن الضفتين معاً لها، ابتلعت الغربية منهما، وهاهي تعدّ العدّة للوثبة القادمة الحتمية نحو الشرقية.
ولذلك بادرت طلائع أبطال تلك العشائر، وزعماؤُهم ونبهاؤُهم ” وأبو عماد أحدهم” إلى رفد كلّ ثائر بالمؤونة والسلاح والحماية وهداية الطريق وعبور النهر، مودَّعاً بالعاطفة المشبوبة، مصحوباً بالدعوة الصادقة. وغامرت في سبيل ذلك بالنفس والغالي النفيس، وتحمّلت بطش المستعمر الإنجليزي الذي كان لا يتورّع عن تعليق المشانق من أجل رصاصة مهربة إلى المجاهدين.
وعندما استشرى الخطر، هبَّ رجال العشائر للنجدة، وانخرطوا مع الثائرين على ثرى فلسطين كتفاً إلى كتف، وبندقية ترفد بندقية، وعزيمة تردف عزيمة، والخنادق تردّد : نفس الرجال يحيي الرجال.
وكان عماد الجيش العربي الأردني ينهض على أكتاف أبناء العشائر، ورسموا بالجباه العالية الباهية السُّمر، وكوفيات الأقحوان الحُمر، أروع ملامح الجهاد والتضحية والفداء والصمود والدفاع ببسالة مذهلة…
وقد فنيتْ منهم بعض كتائبهم وهم يرتقون شهيداً إثر شهيد، والله العليّ المجيد يتلقاهم بالرضا عنهم، والأرض الطهور تشهد لهم، وزغاريد البواريد. وما زالت أسوار القدس محنّاة بأزكى الدماء، وما زالت الأرض الأمينة المقدسة تجود علينا حيناً بعد حين بالأجساد الطاهرة لتؤكد الدليل تلو الدليل على الوحدة الأبدية للشعب الواحد في رئتي النهر الأزلي المقدس، يقصّ خرير مياهه حكايات العابرين شرقاً أو غرباً، لتتراكم صفحات التاريخ تؤكد عروبة وإسلام فلسطين منذ اليبوسيين الكنعانيين، إلى مواكب الفتح الإسلاميّ العُمَري، والناصر صلاح الدين، وقلنسوة يطيح بها قطز صائحاً “وإسلاماه”!!، وكوفية يقذف بها فيصل بعد انكشاف غدر المستعمرين، صائحاً: ” طاب الموت يا عرب” ……….
-لا أعرف عماد شخصياً، ولكنني أعرف أنه عربي، لوني يشبه لونه، وعيناه تشبه عينيّ، وما زال ” دُريد” يردّد في أذنيه وأذنيّ:
وما أنا إلا من غزيّةَ إنْ غَوَتْ غويتُ، وإنْ تَرشُدْ غزيّةُ أرشُدِ
ونحن مع الغزيّة لو كانت غاوية، فكيف إنْ كانت تلك الغزيّة راشدة؟! وأرجو أنْ تكون.
التعليقات مغلقة.