غزة : الحرية أثمنُ من الحياة // د. حفظي اشتية
=
شهران مرّا منذ بداية أحداث غزة الأخيرة، لعلهما أصعب ما واجهناه ” أمة وأفرادا “، على مدى عقود عديدة مضت. وقيل في هذا الشأن كلام كثير أغرق محيطات، وضاقت عن استيعابه كل الفضاءات، وغمرتنا التحليلات حتى اختنقنا، وتصدّعت عقولنا وتفجّرت مشاعرنا، واختلط الحابل بالنابل، وأصبح عصيّا علينا أن يهدأ لنا بال، ونسلم من تدليس الأباليس لنميز الحق من الباطل.
أما الحقائق فلعل أهمها إشراقة إرادة الأمة مع شمس السابع من أكتوبر، وتجلّي قدرتها على التخطيط الدؤوب، والصبر والكتمان، والأخذ بأسباب العلم والتقنية، والشجاعة والفداء والتضحية لتحرير الأوطان والإنسان.
وتلا ذلك مباشرة اتضاح فاضح جديد للموضَّح التليد، وهو أنّ عدونا الحقيقي ليس هو من يحتل أرضنا فقط، بل هو الغرب الظالم الماكر الغاشم الذي كان سببا في نكبتنا، وضياع أرضنا ومقدساتنا، وتشريد شعبنا، وزرع الفرقة بيننا، ونهب ثرواتنا، ونصرة عدونا المحتل علينا طول صراعنا معه على مدى مائة عام.
أما الأباطيل فقد طغى سيلها، وطاف عن الحد والحصر والعدّ. ومنها :
ــ إنّ هذا العدو قوة جبارة قاهرة، لا مجال لتحديها والتصدي لها والوقوف في وجهها، وانتزاع الحقوق عنوة منها، فلا نملك إلا المهادنة والملاينة والخضوع والاستسلام، والمفاوضة العبثية الدائمة لالتقاط بعض الفتات من موائد اللئام.
ــ إنّ هذا العدو ومناصريه يجسّدون العالم النيّر الديمقراطيّ الخيّر، الذي يراعي حقوق الإنسان عامة، وحقوق المدنيين الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء خاصة، وأنّ قلبه يقطر رحمة، ويتفجرإنسانية ونبلا وشرفا وأخلاقا كريمة وفروسية، وإننا يجب علينا أن نظل تلاميذ في مدرسته، ونبذل كل جهدنافي التودد له والتقرّب منه والتشبّه به، والتفاخر بحسن علاقاتنا معه لنستقوي بجبروته على بعضنا، ونأمن شرّه، ونحظى بشرف شراكته!!!
ــ إننا ما زلنا في سكرتنا نستجدي السلام، وحل الدولتين، فمنذ نكبتنا العظمى سنة 1967م، ولا أقول النكسة، تغير مفهومنا للصراع من تحرير كامل الوطن السليب إلى إزالة آثار العدوان عن الأرض العربية المحتلة، وتهاوت مطالبنا بشأن فلسطين لتحطّ بإسقاط مريع على القبول بخُمسها، وظللنا منذ ذلك الحين إلى الآن نلهث وراء سراب هذا الخُمس الذي يتناقص ويتلاشى مع مطلع كل شمس. ونسينا عندما بدأنا التفاوض من هذا الأرضية السفلية البائسة أنّ لجانا عتيدة قديمة، وقرارات أممية شهيرة عظيمة، كانت قد أوصت بأن يكون لنا نصف فلسطين تقريبا، وما قَبِلْنا.
من ذلك لجنة ” بيل ” سنة 1937م التي علق عليها الفلسطينيون آمالا عريضة بأن تعيد إليهم حقهم كاملا وأرضهم غير منقوصة، وتغنّوا بها في أهازيجهم :
“دبّرها يا مستر بِل…. بلكي ع يدّك بِتْحِلّ”
وتبع ذلك قرار الجمعية العامة بالتقسيم رقم 181 سنة 1947م….إلخ، وكنا نرفض كل ذلك لإيماننا الراسخ بحقنا، وفداحة الظلم الذي لحقنا وحاق بنا.
والآن، وصلنا إلى حال من قال : “رضينا بالهمّ، والهمّ ما رضي فينا”.
وها نحن نعود إلى هذه التلهوة وطبخة الحصى وسلوى البائسين، بعد كل هذه السنين، وبعد كارثة أوسلو، وبعد ثلاثة أرباع مليون مغتصب متطرف بعقل تلموديّ متحجّر، انزرعوا في كل تلة في الضفة الغربية، فتحولت إلى أشلاء وشوارع التفافية، وأشتات هيهات أن تجتمع.
وما فتئ “ديك الجنّ الحمصيّ” يصرخ في المدى : “حديثُ خُرافةٍ يا أمَّعمروٍ”، وأمّ عمرو لاهية، وهي عنه في صممِ.
ــ ومن الأباطيل نُصرة غزة بالفعل المبني للمجهول، فمؤتمراتنا وتصريحاتنا تصدع بالقول الحق والصدق بأنه لا بدّ من كسر الحصار عن غزة، هذا الحصار الذي لم تشهد له الدنيا مثيلا قديما أو حديثا، ولا بدّ من إدخال أدنى أساسيات الحياة من ماء وغذاء ودواء وكهرباء واتصالات ومستشفيات إلخ، لكن، من يفعل؟! وكيف نقبل أنّ نتسربل بهذا العجز عن الوفاء لأخوة الدم والدين والجوار، والنهوض بأبجديات الحق الإنساني وشيم العروبة ونخوتها في نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وحماية المستجير وإقامة أَوَد حياة الضعيف الجائع الظمآن الجريح النازف الخائف المشرّد المقتلع من بيته إلى الشوارع تحت المطر والبرد والقصف والهلع؟!
وننادي بأعلى الصوت : إننا نرفض التهجير جنوبا أو شرقا. وهذا موقف حميد مجيد.
لكن، كيف؟ وإلى متى سيستمر هذا الشعب بالصمود وهو المستفرد به المستقوى عليه برّا وجوا وبحرا، في ظل ظروف تنكسر أمامها رواسي الجبال؟؟؟!!!
وإذا كنا نعوّل على تضحيات الأبطال، وصبر الرجال، فَمَن عذيرنا مِن عظيم الأهوال التي فُرضت على النساء والأطفال؟؟!! أولئك الأطفال الذين رضعوا لبان العروبة، فكرروا النداء : أين قومنا العرب؟؟!!
التعليقات مغلقة.