غور العبادات/ عاطف الصبيحي
–
حين تأذّن الله بنزول الوحي مُحملاً بالكتاب الخاتم، كانت جهود البشرية – فلاسفة، رجال العلم وأهل القانون، وأساطين علم الاجتماع – وعلى مدار ثلاثة عشر قرنا مضت قد نزفت عصارة فكرها في تدوين التشريعات لتنظيم حياة الناس، حيث بلغ التشريع كماله كمنتج بشري في عهد جوستينان، فكان القانون الروماني هو خلاصة السيرورة التاريخية للبشرية، في هذه الذروة البشرية تشرفت الأرض عمومًا وحراء خصوصًا بأول نص علوي مقدس بافتتاحية « إقرأ» ذات الدلالات الغورية، وحتى ختام المسك» اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» اكتملت منظومة التشريعات السماوية، التي فاقت باقتدار كل ما سبقها من تشريعات، وشرائع وأخلاقيات، ناظمة وضابطة لايقاع حياة إنسانية فُضلى.
ينبغي أن ننظر إلى الوجه الآخر لكل من العبادات، غير وجهها الفردي المتمثل بالقول المشهور « العبادة علاقة خاصة بين العبد وربه» ما من عبادة إلا فيها جانب متعدي للفردية، متسامي على الذاتية هذا الجانب إنساني بحت، يُعبد الله من خلاله، فالله لا يُعبد في المساجد فقط، ولا غرو في ذلك فالإنسان محور القرآن من ألفه إلى يائه،
الركن الركين الأول دائم الحضور هو الصلاة: الصلاة شعيرة تحتوي على جانب تنظيمي يعود بالخير على الإنسان، فهي ليست دالّة على الإسلام ومُميزة له فحسب، هي فوق هذا تعكس منهج الإسلام في تنظيم أتباعه، والرسالة المُضمرة من نظام الصلاة الوحدة والتآلف، وصلاة غير مسبوقة بوضوء باطله في الظروف العادية، في حين نلحظ في الدين المجرد- الهندوسية مثالاً – يُهمل الجسد كليةً» القذارة المقدسة» عند بعض نُظم الرهبنة، والتعمق الروحي عندهم مرتبط بعلاقة عكسية مع إهمال الجسد، فكلما تقذّر الجسم وقلّ الحضور البدني كلما تسامى الجانب الروحي!، في الإسلام :النظام إلى جانب الصحة في الصلاة يسيران جنبًا إلى جنب مع الجانب الروحي.
إن خمس صلوات في اليوم بحركاتها الظاهرية البسيطة أولها في الفجر وختامها في غسق الليل» العشاء « لكفيلة بتجديد النشاط في جسم وروح الإنسان، وطاردة للخمول والكسل، جاذبة لطمأنينة النفس « أرحنا بها يا بلال».
ظاهر الصلاة وباطنها شكّل ثنائية فريدة وغير مسبوقة في الأديان المتقدمة على الإسلام، ومقدمات الصلاة كذلك، فالوضوء كما قلنا نظافة تؤدي إلى الصحة، وارتقى بها معتبرًا إياها فضيلة باطنية، تلك هي خصيصة إسلامية، « إن الله يحب المتطهرين» والتاء في « متطهرين « هي تاء الجهد، الذي يبذله المسلم أكثر من مرة في اليوم والليلة، فأصبحت العملية فكرية» النظافة من الإيمان « علاوة عن روحيتها « التطهر الداخلي»
صلوات النوافل لم تخلو من جوانب متعددة، كالتراويح المرتبطة برمضان، فيها الاجتماع، اجتماع المسلمين بشكل مميز توفر فرصة لتمتين العلاقات، أو وصل ما قُطع منها، أو ترميم ما تهتك من روابط لهذا السبب أو ذاك، فيها الصحة حيث الحركة بعد الإفطار، فيها الروحانية التي يتظافر على بروزها الصلاة والصيام، فيها بث الحياة في القيم المجردة كالتسامح والعفو والصفح، فيها البذل والعطاء والعناية بالامعاء الخاوية، وفيها ترطيب خواطر الأرحام،وفيها رسم الابتسامة على الايتام والفقراء والمحتاجين كختام مسك لقيام وصيام رمضان.
الصفوف المتلاحمة المتراصة، والنهوض فجراً فيها من روح العسكرية – كما يقول علي عزت- ففي معركة القادسية التي شكلّت منعطفًا تاريخياً في حينها، رجعت مجموعة الاستطلاع الفارسية لقائد الجيش تخبره بأن المسلمين يؤدون تدريبًا عسكريًا في باكورة اليوم – يوم اللقاء- فظنّ المستطلعون أن صلاة الفجر تدريبًا عسكريًا استعدادًا للمواجهة، وهي كذلك بالمعنى البعيد حيث تطويع النفس على صلاة الفجر خاصة في أوقات الشتاء لكفيل بصقل النفس،وهذا أحد وجوه الصلاة، مع التنظيم والانتظام في صفوف، كأنهم بنيان مرصوص، التي لم تستوعبها دورية استطلاع الفرس.
بات واضحاً أن شعيرة الصلاة تحارب الفردية وترفض السلبية، ولا يصح معها الانعزال والتفرد، فهي خلاص فردي من جانب، بما فيها من مناجاة وتقرب للذي شرعها وسؤاله الحاجة، وبثه الهم والحزن والكرب، فهل نبالغ إذا قررنا أن الصلاة تعالج ما تفسده زحام الحياة وتفض اشتباكاتها المُبعثرة للصف؟ فيأتي المسجد ليجمع ما بعثرته الحياة اليومية، ويلملم نفوس ويعيد صهرها في بوتقة الأخوة.
وصلاة الجمعة ذات الطقوس المميزة، ما هي إلا مدرسة بلقائها الأسبوعي، بخطبتها المرتبطة بحدث الساعة الذي يهم المسلمين، خطبة توجيهية توعوية، سواء سياسية أو اجتماعية، حسب الحدث الأبرز الذي يمس حياة المجتمع المسلم، والسؤال لماذا غابت تلك الجوانب من حياة المسلم اليوم، واختزلت الصلاة كشأن فردي، هلّا قرأنا الصلاة قراءة روحية اجتماعية نفسية بما يليق بها.
التعليقات مغلقة.