“فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم…// د.حفظي اشتية
–
المشهد الأول:
قبل ثلاثة عقود، زرتُ أحد أقاربي في أرياف لوس أنجلوس ضمن ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الامريكية، فنصحني بتقديم معاملة يمكن أن تكون مدخلاً للحصول على ” الكرت الاخضر” فيما بعد، وتذرّعنا بحاجتي إلى ذلك لفتح حساب في البنك، والحصول على رخصة قيادة.
تقدمنا بالطلب إلى المكتب المختص، وانتظرنا، فانشغل الموظفون بطلبنا. وبعد حوالي ساعة تمّ الردّ بجواب خطيّ رسميّ ممهور بتوقيع مدير المكتب، ومضمونه الأساسي:
نرحب بك، ونتمنى لك إقامة سعيدة، ونعتذر عن عدم إجابة طلبك لأنّ القانون الساري لا يسمح بذلك. إنْ أردتَ حقاً فتح حساب فسنزودك بخطاب للبنك المعني يسهّل أمرك. وإن أردتَ أيضاً الحصول على رخصة قيادة فسوف نزودك بكتاب للجهة المعنية يعزّز طلبك.
إنْ لم يعجبك جوابنا هذا فبإمكانك أنْ تتقدم بطلبك في الفترة المسائية التي يدير المكتب فيها طاقم جديد ومسؤول آخر، وإنْ شعرت بالظلم من جوابنا فبإمكانك أنْ تشكونا إلى المسؤول عنّا واسمه فلان وهذا هو رقم هاتفه. ونجدّد الترحيب بك والأمنيات الطيبة لك.
خرجت وأنا أردّد قولة الشيخ محمد عبده: وجدتُ في أوروبا إسلاماً ولم أجد مسلمين…
المشهد الثاني:
في الأسبوع الماضي كنت في زيارة قصيرة إلى تركيا، تلقفتنا عظمة الحضارة المهيبة منذ الهبوط في المطار، وأدهشتنا الفخامة والنظافة والدقة وسرعة الإجراءات….. ثمّ انتقلنا إلى منطقة الفاتح وسط إسطنبول، عبرنا عشرات الكيلومترات في طريق المطار تبهرنا سعة الشوارع وجودة تخطيطها وإنشائها وتنفيذها ومراعاتها العظمة الفارهة والأمان البالغ، والتزام السائقين بقوانين السير وإرشادات السلامة العامة والمسارات المخصصة والسرعات المقررة.
وتجولنا في المدينة العظيمة، فأدهشتنا معالمها السياحية المعتنى بها، وشوارعها الواسعة النظيفة، وأسواقها الهائلة، وحركة السير المدهشة المنسابة، لم نرَ دورية شرطة واحدة توقف مركبة دون داعٍ ظاهر، عشرون مليون إنسان يتنقلون في المترو والترام والحافلات العامة والسيارات الخاصة بكل سهولة ونظام، لم نرَ عقب سيجارة مُلقى على الأرصفة، أو حنفية ماء تتسرّب مياهها، أو أسلاكاً خطرة لاستجرار الكهرباء المسروقة، أو حادثاً مرورياً، أو شِجاراً بين الناس، أو اشجاراً مُهملة تعيق الحركة، أو مطبّاً عشوائياً يصدع القلوب ويُعطب المركبات، أو بضاعة تحتل رصيفاً، أو أناساً يتسكعون دون هدف، أو مركبات مهترئة تلوث البيئة، أو مكاناً أجدب من الخضرة والزينة، أو موكبا لخريج من الجامعة أو الثانوية العامة أو الروضة يستبيح الشوارع، أو رصاصاً حيّاً يتطاير فوق الرؤوس بحثاً عن ضريبة الفرح العبثيّ الدمويّ، أو ألعاباً نارية تعلن للكون أن ضيفاً جديداً قد انضمّ إلى جيوش العاطلين عن العمل السابقين، أو أطفالاً يلعبون في الشوارع، أو سباقاً أرعن بين حافلتين، أو حدثاً يسوق مركبةً، أو والداً أحمق يحضن طفله وهو يقود المركبة وسط الزحام، أو شارعاً مُحتلاً مغلقاً لمناسبة ترح أو فرح. لم نسمع صياحاً لبائع خضرة متجوّل أو صراخاً لمشتري الخردة، أو زعيقاً لموزّع الغاز، أو زوامير سيارات تُطلق دون حاجة وتهدم الأعصاب.
لم نُعانِ من تطفّل الناموس، ولم يهاجمنا الذباب، ولم تطاردنا الكلاب……. إلخ.
لم نرّ أو نسمع شيئاً من ذلك رغم تدقيقنا وبحثنا عمّا يجعلنا نتوازن نفسياً بأنّ ما نعاني منه ليس بدعاً في وطننا وليس حكراً علينا. باختصار: وجدنا بيئة طبيعية دينية اجتماعية أخلاقية …. تُرضي الأذواق السوية وترتقي بالنفس الإنسانية والكرامة البشرية.
تذكرنا أنّ هذه الدولة قبل أقل من مئة سنة كانت متهالكة تتناهشها القوى الاستعمارية وتفتك بها كل الأمراض.
المشهد الثالث:
عدنا إلى الوطن، وشوقنا يسبقنا رغم مرارة عتبنا وخذلان طموحنا. هبطت الطائرة فراعنا نبات “العاقول” الذي نما بأمان على المدارج المتواضعة. ودلفنا لاستكمال إجراءات تسجيل القدوم، واصطففنا بين الشرائط التي تضبط تنظيم الدور، فسارع بعضنا إلى التسلل من بينها لتجاوز الدَور والتقدّم دون حقّ، وهم الذين كانوا قبل ساعتين فقط في مطار إسطنبول يلتزمون تماماً وحرفياً بالنظام.
وآلمنا أكثر أن أحد موظفي المطار عرف أحد المسافرين، فناداه على الملأ دون خجل أنْ يتقدّم على الآخرين، فتجاوزَنا جميعاً، وحقيبته على كتفه تصدم بعنف أكتاف الملتزمين المؤدبين وهو في طريقه إلى التنعم بحظوة معرفته، نافشاً ريشه، نافخاً كرشه، ناسفاً كلّ الأنظمة المرعية والأعراف الأخلاقية.
فرددنا: راحت السكرة، وجاءت الفكرة. هذا نموذج مما يجري في وطننا الذي يسكن أرواحنا ويجري في الشرايين.نحبّه ولا نستبدل به غيره، نحبّه ولا نطيق بعداً عنه، نحبّه ونألم لمن يسيء إليه ويشوّه صورته، نحبّه ونأمل أن نسعى جميعاً لنجعله أفضل. ولن يكلفنا هذا أنْ نأتي بالمعجزات، فقط علينا انْ ننظر إلى العالم المتقدّم حولنا ونتشبه بهم.
وطافت في المكان روح السهروردي المقتول، وأشعاره في الذات الإلهية، وتردّدت أصداء صوته قبل أكثر من ثمانية قرون في قلعة حلب التي قُتل فيها شاباً متفجراً بالعقل والنور، مُتهماً بالزندقة، فتماهت مع المشاعر الساخنة :
أبداً تحنُّ إليـــــكم الأرواح ووصالكم ريحانها والــراحُ
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم وإلى لذيـــذ لقائــــــكم ترتاحُ
وا رحمةً للعاشقين تكلّفــــوا ستر المحبة والهوى فضّاحُ
بالسرّ إن باحوا تُباحُ دماؤهم وكـذا دماء العاشــــقين تُـباحُ
فتشبّهوا إنْ لم تكونوا مثلهم إنّ التشـــبّه بالكـــرام فـــلاحُ
التعليقات مغلقة.