قراءة في رواية برق او قرن أيل مقلوب
=
عن دار عصير الكتب للنشر صدرت رواية برق أو قرن أيل مقلوب للروائي عبدالله الزيود. أول ما يلفت نظرك الغلاف وهو من تصميم فنان الكاريكاتير رأفت الخطيب، تزينه لوحة كرتونية يظهر فيها رسام ترسمه لوحته ! من هنا تبدأ بطرح أسئلتك: ما الذي تقوله اللوحة ؟ هل نحن نرسم اللوحة أم هي التي ترسم ؟ هل ترسم له وجها أم قدرا أم قناعا! أم تريد فقط أن ترسم له ابتسامة فوق وجهه العابس؟ لماذا قرن أيل ؟ ولماذا عليه أن يكون مقلوبا؟ كتب عبدالله الزيود روايته في أربع فصول و على مئة و ثمان و ستين صفحة مؤطرة تحتضن الكلمات و تمنعها من الهرب يسرد كل من عبدالله و عمر و سلمى قصتهم في علاقة غريبة بين الوهم و الواقع وكيف يؤثر كل منهما في الآخر. أثناء سيرك بين فصول هذه الرواية تطالعك اقتباسات كأنها لوحات إرشادية مثيرة للخيال تتلمس فيها سمات الشخصية التي ينوي الحديث عنها ذلك الفصل. في الفصل الأول بدأ الراوي -عبدالله- العائد إلى عائلته حديثه عن عمر، يعرفنا به مسهبا في وصفه ورسم ملامحه و كلامه ، نعرفه “حدادا” متعلما بل مثقفا له آراء جريئة في ما كتبه عبدالله، ثم فنانا يدخلنا مرسمه يطلعنا على لوحاته و التي يحمل كل منها قصة تساهم في سرد الأحداث، فهذا “العكروت” الذي مات، و هؤلاء رجال حول طفل ملقى عند حاوية وتلك لوحة مغطاة لن نراها إلا في الفصل الرابع . خلال هذا الفصل نعرف أن عبدالله يشكو من إعاقة ما لكن لماذا سأله عمر ” ألن تكف عن التظاهر ؟” ؟ تجذبك طريقة السرد و كيفية رسم الأحداث دون زيادة أو نقصان ، من وقت لآخر يخاطبك الراوي أنه يستطيع الاستطراد “ولكن هذا لن يفيد قصتي في شيء “. تقف عند بعض الجمل مليا لفهم الموقف و إزالة بعض الغموض و ترددها باستمتاع كما لو كانت بيت من الشعر جميل. في الفصل الثاني كانتا عينا عمر تصف المشهد وتقدم لنا ما تراه ، يلاحق الحركات و الدلائل و يقرأ عيون من حوله وكأنه تحرٍ في إحدى القصص البوليسية إلا أن الفنان يرى ما لا يراه الإنسان العادي. بدأ يخبرنا قصة “العكروت ” والتي شاهد رسمه عبدالله في المرسم من قبل . الحوار بين الشخصيات تسمعه في جمل شاعرية عميقة تتحدى الحزن و الشقاء. لينتهي الفصل ونعرف في الأسطر الأخيرة انتحار ” العكروت” منهيا شقاءه ! يظن عمر أن رسمه هو الذي أدى إلى انتحاره! هل يملك عمر قوى غير طبيعية ؟ في الفصل الثالث تبدأ طائرة “الدرون” بالتقاط المشاهد لتضيف عليها سلمى في خيالها الخلفية الموسيقىية و بعض تأثيرات المونتاج السينمائي، يصدمك رأي الكاتب على لسان سلمى “الفن كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة” ، هل يترك الكاتب بعض منه فيما ينتجه ؟ فالشخصية الرئيسية عبدالله روائي و عمر فنانا مثقفا و سلمى خريجة كلية التربية ! ما هذه المدينة التي يستخدم فيها “الزعران” أسرار القانون للاحتيال على أرزاق التجار و يسلبوا أموالهم! ويتركوا ضحاياهم في انهيار و حيرة و بؤس صارخين: “وبعدييين يالله ! بعدين ؟!”. لكنهم انتقموا لأنفسهم غداة ذلك اليوم ! هل هو أثر السحر في ريشة عمر عندما رسم لوحة تمثلهم و الغضب يتطاير من عيونهم ؟ أهو الواقع أم خيال سلمى و مشروع تخرجها الذي يقرأه الأكاديمي موازيا للأحداث؟ لا تنفك أحداث الرواية تصيبك بالدهشه! في هذا الفصل تبدو لك الأقنعة التي ترتديها الشخصيات أكثر وضوحا، سواء أكانت تأتأة أو سبحة تدور بين الأصابع وربما تكون ورشة حدادة. في الفصل الرابع يسأل الشيخ ولده عبدالله هل بدأ الكتابة ؟ ثم ينصحه بقراءة نشيد الأقنعة في رواية الضوء الأزرق لحسين برغوثي. الأقنعة من جديد ! أي هذه الشخصيات ترتدي قناعا ؟ وكلها شخصيات عادية جدا ، وعادة ما يلبس القناع المهرج لإضحاك جمهوره، أو أبطال الصور المتحركة أو لضرورة صحية. أما أن يتقمص الممثل شخصية ما فهذا لا يحدث إلا على المسرح و من قال أننا لا نمثل على مسرح الحياة! عندما يجلس عبدالله و عمر تكتشف أن عمر قرأ نشيد الأقنعة عندما قال:”أعطني من فضلك قناعا.قناعا ثانيا من فضلك.” تتسارع الأحداث وتواجه الشخصيات بعضها بعضا .من يمسك بخيطان الدمية؟ عبدالله ، عمر أم سلمى ؟ ” من هذه الفتاة؟ ومن أين لها بمثل هذا الوصف، وأي حقد يدفعها لمثل هذا الخيال؟ “ ينكشف لنا السر الذي حدث قبل ثلاثين سنة ،و كيف لعبت الأقدار بكل من عبدالله و والده و أمه .وكيف صنع عبدالله الزيود بمهارة كائنا يعيد اتزان الواقع ويعيد للضحايا حقهم في الإنتقام ممزقا كثيرا من الأقنعة ذلك الرسام عمر الذي يُحمٓل لوحاته عزائم ساحر تستجيب لها السماء برقا متشعبا كأنه قرن أيل مقلوب مؤثرا في مصير من يرسمه. لكن هل من المحتمل أن تكون الحقيقة مختلفة عما تحدٓث به الشيخ و أن سلمى تروي ما يحدث في فيلمها القصير فقط؟ قدمت لنا الرواية المرأة المتعلمة والمثقفة الفاعلة في الأحداث من حولها ولم تعد كما كانت قديما يقع عليها الأذى مستسلمة لأقدارها . بل استطاعت بعض الطالبات العمل على إيقاف ذلك الأكاديمي و الانتقام منه. هذه الرواية القصيرة و الممتعة تفتح لنا نوافذ في آفاق عديدة ، أسماء كثيرة لأدباء و شعراء و اقتباسات جميلة من آثارهم لاتتركك قبل أن تُقلٍع من جديد في انتاجهم. تنقلنا الأحداث بين الأمكنة :وسط البلد ، سوق البخارية، جبل الجوفة ، جبل اللويبدة ، دوار باريس وكل منها له شخصيته فهي ليست مجرد أسماء فارغة بل لها حضور كثيف في حياتنا ،إذا مررت بها فربما ترى عمر يجلس في إحدى الزوايا يرسم لوحته ،أو ذلك الشيخ يسير وتسير معه سبحته ، و ربما ترى فتيات الجامعة يسرن عائدات يحضن كتبهن ، عالم ملون كل يسير بقناعه. قراءة ممتعة ! أعطني قناعا من فضلك !
بقلم /سعيد ذياب سليم
التعليقات مغلقة.