كلمات كرهناها // د. حفظي اشتية
=
في العقود الأخيرة صارت تتردد كلمات كثيرة على ألسنة العامّة والخاصة، وتستشري، وتتمدد بشكل عشوائي سرطاني في وسائل التواصل الاجتماعي، يستعيدها الناس على نحو ببغاوي دون أن يفقهوا مدلولها، ويعوا إيجابيتها، أو سلبيتها. من ذلك :
– توجيهات:
لا تكاد تسمع مسؤولاً كبيرا كان أم صغيرا، يصرّح في شأن وظيفي عامّ، تخلو تصريحاته من قيامه بعمله ذاك بتوجيهات مسؤوله المباشر أو الأعلى.
ونعجب كيف يتمكن هذا المسؤول العظيم من متابعة كلّ واردة أو شاردة في مؤسسته؟ وكيف تسعفه عبقريته ليقف على أدق التفاصيل وأقل المهام ليوجّه الموظف المختص إلى كيفية التصرف وإنجاز المطلوب؟!
ونعجب ثانيا لماذا يحتاج هذا الموظف في كلّ شؤون عمله، وقيامه بأدنى واجباته إلى كل هذه التوجيهات لينجز أبجديات عمله؟ وأين شهاداته وخبراته؟ وأين مهامه وصلاحياته؟ وأين نبوغه وإبداعه وقراراته ؟ ولماذا يبقى مكبّل اليدين زائغ العينين ينتظر مسؤولا قد لا يكون فهيما أو حكيما أو متخصصا ليوجّهه للقيام بأساسيات عمله ؟؟!!
ونعجب ثالثا: إذا كان لدينا هذا الحشد الهائل من المسؤولين العباقرة الدقيقين المدققين الملهَمين الملهِمين المتابعين الموجّهين …… إلخ، ولدينا هذه الجيوش الجرارة من الموظفين التائهين الحائرين المنتظرين لضالّتهم النفيسة وهي الحكمة التي تتساقط من أفواه مسؤوليهم، يلتقطونها بعناية، وينفذونها بأمانة، ثم يتفرغون لملء الفضاء بالتصريحات الإعلامية العرمرمية؟؟!!
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يُشير الواقع إلى أننا نتأخر في معظم الميادين؟ وأين أثر تلك التوجيهات العظيمة؟؟!!
دعوها فإنها مزعجة.
– قامة :
كلما ألّف أديب، أو قام خطيب، أو اخترع مخترعٌ شيئاً بدائياً، أو كتب أحدهم مقالة، أو خَطَبَ شيخهم عروساً، أو أصلح بين متخاصمين، أو علّق على شأن عام في مجلس، أو ألقى محاضرة، أو تصدّر فضائية في مناظرة، أو خَطَب يوم جمعة……إلخ
ترى أفئدة من المنافقين تهوي إليه، وتمجّده وترفع شأنه وتُعلي مقامه، فإذا هو قامة، دون أن يدرك الناقد الحصيف فيمَ مَدح، أو يفهم صاحب القامة الفصيح علامَ مُدح!!!
مهرجان من النفاق، وأحكام بلهاء تتطلق، وكلمات فارغة تُساق، ناقد فاقد القيمة يتزلّف، وقامة قميئة تعتلي زيفا على هيئة دخان سرعان ما يتطاير تاركا لوثة في العقول وتلويثا للبيئة.
وجمهور عامة الناس يرقُب المشهد:
بعضهم يغلبه الضيق والتوتر والإحباط مما يسمع ويتابع.
وبعضهم يحاول اللحاق بالركب فيتمرّن ويتدرّب ليتمرّس ويقلّد.
وبعضهم ينخدع فيقع صريع رخص الذمم، وانقلاب المفاهيم، واختلال القيم.
وبعضهم يحنّ إلى زمن كانم فيه الناقد صيرفيّا حاذقا جريئا أمينا صادقا، يزن كلامه بميزان الذهب، ويطلق أحكامه بوعي وخبرة وبصيرة، مدركا أنه قاضٍ عدل، وأن رأيه يُحسب له إن كان صحيحا فيرتقي، ويُحسب عليه إن كان زائفا فيهوي ويتردّى.
دعوها فإنها مهلكة.
-تزهو بك المناصب:
كلّما تسلّم أحدهم منصباً، أو تسلّم مؤسسة، أو تكلّف بمهمة، أو شارك في لجنة، أو اشترك في فريق عمل، أو ظهر في ندوة….. إلخ، تنهال عليه المجاملات الممجوجة بأنه الخبير الجدير القوي الأمين المستحق للّقب والمنصب، الذكي الألمعي الذي سيصوب الخلل، ويشفي العلل، وينقذ المركب، وأن المنصب يزهو به، وليس هو من يزهو بالمنصب.
حسناً.
هذا الكلام يقال للوزير والسفير ولرئيس الجامعة ونوّابه وللأمين العام، وللمدير الكبير والصغير، ولرئيس المؤسسة وللعميد ونوّابه ولرئيس القسم، ولرئيس الشعبة وللمراقب وللمنسّق وللموظف حديث التعيين، باختصار، نحن جميعاً قوم تزهو بنا المناصب، مميزون في كل شيء، متفرّدون في كل فضيلة، بارعون في كل شأن، نملك ناصية الخبرة والعلم والخلق والجديّة والاستقامة والالتزام والأمانة والتفاني في العمل والعمق في التخطيط والنظر والدقّة في الأداء والإنجاز …………. إلخ.
لكن، لماذا نتأخر؟ ولماذا لا نلمس لكلّ ذلك أي أثر؟!
” يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.
التعليقات مغلقة.