ماذا قال العصفور؟// سعيد ذياب سليم
بنى عصفور الدوري عشه في شق جدار أحد البيوت الخالية. كانت تخيفه من قبل ضوضاء المخيم المزدحم، لكن الآن وقد هرب الناس وسكنت الأزقة، وجد في هذا الشق مأمنه.
وضع فيه أعوادًا صغيرة رتبها مهدا في انتظار صغيره القادم، رقدت أنثاه عليها. كان العش ضيقًا لاثنين لكنه كان يقف على الحافة يزقزق على مسمع أنثاه.. تشب تشب تشيب.. ويكرر ذلك باستمرار. ماذا كان يقول لها؟ أكان يقول أحبك؟ أم كان يتساءل أين ذهب سكان المخيم؟
ثم يغيب ساعة أو ساعتين يدور في فضاء المدينة، ينقبض جناحاه ثم ينبسطان سريعا يحمله التيار بعيدا، يناور بين الدخان والغبار الذي تصنعه القذائف، يلحق حشرة طائرة. حط إذ تعب على غصن شجرة سدر، كان بعض الأطفال يلعبون تحتها ويبحثون بين الأوراق التي سقطت وجف بعضها أو تعفنت فقد يجدون بعض ثمار “الدوم” يأكلونها. صاح أحدهم فرحا: “هذه واحدة”. وضعها في فمه ثم أخرج بذرتها، وضعها على حجر ودقها بآخر وأخرج قلب البذرة ثم وضعها في فمه سعيدا. وصاح آخر: “وهذه واحدة.. أكلتها الدودة”. دار آخرون حول السدرة يشدون أغصانها الشائكة بحذر. قفز العصفور إلى غصن أعلى يستمع، يميل رأسه بزاوية تسمح له مراقبة حركاتهم ورؤية عيونهم المتسعة. فجأة سمع العصفور بين الضحكات أزيز طلقات بندقية أصابت طفلًا ورشق دمه الشجرة والعصفور، اهتز الغصن وألقاه بعيدا وقلبه يدق هلعا. على السطح المقابل كان الشيطان حامل البندقية يكشّر عن نابين ذئبيين مسددا بندقيته باتجاه طفل آخر.. وآخر.. وآخر، وبقيت شجرة السدر وحيدة.
عاد العصفور إلى عشه وقف على الحافة، أخذ يصفر.. تشب تشب تشيب! ماذا كان يقول؟ اشتقت لك؟ أم أنهم يقتلون الأطفال؟ قامت أنثاه عن بيضة وحيدة ورفرفت بعيدا لتأخذ استراحتها، ثم تقدم احتضن البيضة وجلس ساهما يتذكر الأطفال يضحكون ويموتون.
مرت ساعة ثم شاهد في الأفق طيورا عملاقة ضربت الأرض بصاعقة قوية اهتزت لها كالزلزال، اسودّت السماء وانتشرت رائحة لحم محروق. قُذِفت سُلامى صغيرة أصابت العصفور في عشه، فهرب فزعا تاركا البيضة الصغيرة الوحيدة. لم يستوعب مخه الصغير ما حدث، لكنه سمع ضحكة الشيطان.
رفرف بعيدا عن العش وعن الجدار وابتعد عن المخيم. كان الناس على الأرض ينتشرون كالجراد يسيرون – جوعى – تارة إلى الجنوب وتارة إلى الشرق وتارة إلى الغرب، يلبسون خوفهم ومِزَق ملابسهم ويحملون ما بقي من أجسادهم. وإذا نظر باتجاه عشه كان يرى البيضة نجمة صغيرة.
طار باتجاه الشاطئ وحط على زورق كان قد سحبه التيار إلى عرض البحر. وجد هناك النوارس والإوز وألوانا غريبة من الطير. صرخ فيهم: تشب تشب تشيب. رد عليه نورس: كواك كواك واق.
بعد جهد فهم أنها طيور مهاجرة إلى وادي النيل وأنهم يرحبون به ما حمله جناحاه.
في عتمة الليل طار السرب جنوبا مهتديا بالنجوم. نظر العصفور فرأى نجم القطب وإلى اليمين منها رأى نجمة صغيرة عرف فيها البيضة الصغيرة التي تركها.
في الصباح هبت ريح حركت القارب، قفز على إثرها العصفور إلى الحافة وقال: تشب تشب تشيب، ثم قفز في الهواء ممسكا بجناحيه التيار.
ترى ماذا قال العصفور؟
التعليقات مغلقة.