مبان قديمة في مادبا تعكس تراث المكان وتروي تفاصيله الشعبية

تشكل البيوت التراثية والمحال التجارية العتيقة في مدينة مادبا معلماً من معالم المدينة التاريخية والحضارية والسياحية، والتي نفذت بأشكال وأنماط مميزة من فن العمارة القديم، وتعبر بوضوح عن أصالة هذا الفن وتفرده في عمليات البناء والعمارة الممزوج بطابع قل أن نجد مثله في هذه الأيام، رغم أن هناك العديد من المنازل التي تم هدمها أو ترميمها بالكامل وتغير صورتها التراثية، وأصبحت عند النظر إليها عبارة عن جسم جديد وسط مبان عمرانية حديثة.

ويوجد في مدينة مادبا 25 بيتاً ثراثياً، تم تسجيلها وفق المسح الذي أجراه المركز الأميركي للأبحاث، حيث أن هذه البيوت التي تنثر عبق تاريخ يحاكي فن العمارة التقليدية لمجتمع مادبا، وتروي حكايات وقصصا من ذاك الزمن الجميل بسحر بنائها المتميز والآخاذ لتبقى موجودة وشاهداً مستمراً للأصالة والعراقة، كونها منتشرة في وسط مدينة مادبا، وقد مرت سنوات طويلة على بنائها واختارت أن تبقى صامدة أمام عوامل الزمن، كونها تحمل رسائل عميقة  لا تقف عند بناء، إنما تتعدى ذلك لأنها تحمل طابعاً قديماً ينتقل إلى زمن غير زماننا وتقدم لنا صورة موجزة عما كانت عليه الحياة.

بيوت تنقل أنماط العمارة التقليدية وتتميز ببساطة البناء وملاءمته للبيئة والمناخ، حيث شيدت بمواد بناء متوافرة محلياً مثل الطين والقش والقضبان، وذلك لحماية ساكنيها من برد الشتاء والحيوانات المفترسة؛ حيث ما تزال من أهم ما أنجزته التحولات العمرانية والمعمارية في المدينة، التي أفرزت قيماً اجتماعية وحضارية وثقافية على مر تاريخها. لغرف البيوت والنمط العمراني مزايا فريدة من حيث الجماليات والتوزيع الوظيفي، والفراغات والإحساس الجمالي محصلة للعديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، إضافة إلى تميزها بطرازها المعماري ذي الأهمية للمدينة لقيمتها التراثية والجمالية وهي بحاجة إلى إعادة الروح إليها من خلال جذب رؤوس الأموال لاستثمارها في مشاريع تجارية، بعد أن شهدت المدينة خلال الفترة الماضية نماذج عمرانية ناجحة مثل: بيت إبراهيم الجمعان، الذي تحول إلى مطاعم سياحية وبيت الشويحات وبيت الفراج وبيت الفرح، وكذلك دار السرايا، ومبنى مركز وزار مادبا وبيت البيروتي وبابور القصار وقد استملكتهم وزارة السياحة والآثار.
ويتكون البيت المادبي التراثي الخارجي، من (الحوش)، أي المدخل الخارجي، وهو من مكونات بعض تلك البيوت الخارجية ويشبه مصطبة مرتفعة كانت بمثابة مكان للسهر صيفا، ومن الحوش يتم الدخول من بوابة بعرض مترين إلى داخل الدار المبنية من الحجارة.
أما مكونات البوابة (الدواسة): فدرجها حجري يقابلها في أعلى البوابة “العتبة”، بعرض البوابة وفي أعلى العتبة توجد فتحتان صغيرتان للتهوية وللسماح بدخول أشعة الشمس وتمرير الهواء إلى داخل الدار، وكانت تصاميم البيوت أنواعاً بحسب مكانة صاحبها المالية والاجتماعية، فهناك دار من ثلاثة قناطر وأخرى من قنطرتين، وأصغر البيوت من قنطرة واحدة، والقنطرة عقد هلالي مصنوع من الطين والحجارة بعناية فائقة؛ لضمان تماسكها وعدم تأثرها بأي مؤثرات قد تحدث وتؤدي إلى سقوطها.
ويتكون البيت الداخلي، من: (القطع) و(المصطبة) و(الراوية) و(الكواره)، ومجسم مرتفع مصنوع من الطين يسمى (الروشن)، الذي كان يوضع فوقه فراش النوم من فرشات ولحف وبطانيات وبسط، حيث أن القطع كان بمثابة مستودع، وفي الشتاء يستخدم لمبيت المواشي والحيوانات خاصة في البيوت المصممة من ثلاث قناطر أو أكثر، حيث عدد القناطر يتحكم بعدد القطوع، أما المصاطب ففي أكثر البيوت توجد مصطبتان تستخدمان كغرف نوم، فإحدى المصاطب تخصص للزوج والزوجة والمصطبة الأخرى لنوم الفتيات، أما الشباب الذكور فكانوا ينامون في بهو البيت، أما الراوية فلا توجد إلا في الدور المتسعة، وهي عبارة عن قطع، لكن واجهته الأمامية مغلقة تماما مع وجود فتحة تؤدي إلى داخل الراوية لاستخراج التبن الذي يخزن فيها بعد عملية الحصاد، إذ يتم إفراغ التبن فيها من فتحة تعلو الراوية تماما على سطح الدار.
أما الكوارة، فكانت أشبه بخزانة وهي مصنوعة من الطين مع وجود فتحة في أعلاها لإفراغ الطحين فيها، إذ يتم إخراج الطحين لعجنه وصنع الخبز على الصاج أو في الطابون، وكان يتم من فوهة صغيرة في أسفل واجهة الكوارة الأمامية، إضافة إلى حفرة النار، وتتوسط أرضية الغرفة وتستخدم كموقد للنار لغايات الدفء ووضع القهوة.
ويمتاز مبنى مركز زوار مادبا، بطرازه المعماري الفريد ببنائه الذي يحتوي على خمس غرف لكل واحدة منها مهمتها الخاصة بها، وتتوسطها ساحة أمامية تحتوي على مظلة خشبية تهب الزائر ظلاً لطيفاً يحميه من حرارة الصيف ومطر الشتاء، وفي داخل حدود مساحته “بيت البيروتي”، الذي استكملت وزارة السياحة والآثار ترميمه، ويعود إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، وتم الانتهاء من ترميمه العام 2018، وأطلق عليه اسم البيروتي نسبة إلى المدينة التي ينحدر منها صاحبه، ويتميز البيت بقناطر تجسد الهندسة المعمارية البيروتية، حيث تم استثماره من أحدى النساء لإقامة العديد من التجارب ومنها: صناعة اللوحات الفسيفسائية، الرسم بالحناء، اللباس الأردني، الفلكلورية، رسم لوحات فنية، حياكة وصناعة البسط بالنول؛ إضافة إلى نشاطات ومعارض لإبراز الحرفي المادبي.
وتضم محمية متنزه مادبا الأثري التي بوشر العمل في بنائها العام 1991، على الشارع الروماني: قاعة هيبوليتس، كنيسة النبي الياس وسرداب القديس اليانوس، كنيسة العذراء، معرض الفسيفساء، معهد “مادبا لفن وترميم الفسيفساء”، الذي يعد من المعاهد الرائدة على مستوى الشرق الأوسط، وأول معهد متخصص بالتعليم والتدريب والبحث العلمي لفن الفسيفساء في المملكة والشرق الأوسط، ونقطة إيجابية تعنى بالحفاظ على لوحات الفسيفساء الأثرية، وتخريج شباب مهنيين قادرين على ابتكار الجديد ونسخ الماضي.
أما القصر المحترق الذي يتوسط الشارع السياحي، فهو بناء ذو طراز قديم  يضم بداخلة أرضيات فسيفسائية تمثل الحياة اليومية، وصورة لما يسمى بـ “آلهة النصر تايكي”، ويضم جزءا من الشارع الروماني المتصل بالحديقة الأثرية، كما يحتوي الموقع على كنيسة الشهداء، التي تشتمل على أرضيات فسيفسائية تعود إلى الفترة البيزنطية خلال القرن السادس الميلادي.
وما يزال سوق مادبا التجاري القديم، يحتفظ بالعديد من متاجره القديمة التي بنيت في عقود العشرين الأولى، بينما المتاجر الأخرى طالتها معاول الهدم والاستبدال بمبان حديثة أفقدت وسط المدينة اطلالته التاريخية والتراثية، وتتواجد غالبية المتاجر القديمة في شارعي الهاشمي والملك طلال، وبشكل عام فإن المتاجر غرف منفردة بأسقف مستوية ومن دون نوافذ ولمعظمها أبواب بأقواس مسطحة، والكثير منها لها حجارة عقد بارزة، وهناك مداخل أخرى تم تعديلها وهي الآن مستطيلة، وما يزال القليل منها فقط يحتفظ بالأبواب الخشبية الأصلية، بينما معظمها تم استبدالها بأبواب حديدية ملتفة.
ويعد بيت “إبراهيم الجميعان”، الذي يعود تاريخ بنائه للعام 1905، على يد معماريين من فلسطين، وتم ترميمه وتحويله إلى مطعم سياحي أول بمشروع سياحي في مدينة مادبا، وبجانبه بيت “القسوس”، والذي هو عبارة عن بيت ثلاثي بني في الثمانينيات من القرن التاسع عشر من قبل “خليل القسوس”، إضافة إلى بيت “كرادشة”، الذي بني من قبل سالم كرادشة قبل مائة عام من حجارة منحوتة بدقة وزخرفة للواجهة الأمامية، كذلك منزل “حمارنة”، والصيدلية التي تم ترميمها، وإضافة طابق ثان فوقها وتحويلها إلى مطعم سياحي.
وتشكل المخازن التجارية الواقعة في منطقة السوق التجاري أو ما يعرف بشارع الملك طلال، معلماً تراثياً لوجود هذه المحال التجارية الممتدة من “مربعة أبو الزلف” والعائدة لعائلة العجيلات، والتي ما تزال تحتفظ بطابعها التراثي القديم من خلال الحفاظ على طابعها المعماري.
ويعتبر مبنى السرايا الذي بني في القرن التاسع عشر من أهم المباني التراثية التي أنجزته التحولات العمرانية والمعمارية في تاريخ مادبا الحديث. ويحتوي المبنى على 11 غرفة، بمساحة إجمالية 450 مترا مربعا، إضافة إلى سطح المبنى الذي تبلغ مساحته 230 مترا مربعا، كما تبلغ مساحة التوسعة الحديثة حول المبنى 160 مترا مربعاً، إذ بناه العثمانيون العام 1896، وكان خاصا بالحاكم الإداري في تلك المرحلة، وتم تشييد طابق ثانٍ في المبنى العام 1922.
ويتميز متحف مادبا الأثري والشعبي، بوجود البيوت القديمة المتلاصقة التي تتزين أرضيتها بلوحات الفسيفساء التي شهدت تاريخا وحضارات تحكي أسرار وخفايا الأجداد الذين ساهموا في بناء المدينة على مدى العصور؛ حيث يختزن المتحف الذي أنشأته دائرة الآثار العامة العام (1978)، في طياته إرثا للحياة وارتباطا وثيقا بين الماضي والحاضر، وشاهد للعيان لأهمية المدينة التاريخية والحضارية عبر الآثار المنتشرة في أرجائها، ويمثل الحياة الشعبية والتقليدية داخل المتحف بوجود البيت الشعبي الذي يعد من أهم ركائز المتحف، والذي يحتفظ على أرضية مرصوفة بـ”حجارة الفسيفساء” كلوحة فنية كبيرة حافلة بنقوش ورسومات من العصور الرومانية، عمونية، وبيزنطية، إلى جانب أشكال هندسية متفاوتة على الجدران تظهر فيها دوائر ومستطيلات ملونة وبأحجام متباينة، إضافة إلى صور حيوانات ونباتات ذات قيمة في العصور السابقة.
وللقيمة التاريخية والتراثية والحفاظ على هذه البيوت منها: بيت الشويحات الذي تم استثمار جزء منه لإنشاء مطعم سياحي، مع الحفاظ على طرازه المعماري، إضافة إلى قصر الفرح الذي بني العام 1904، وكان يعرف بقصر “بن فرح”، ويتكون المبنى من حجارة منحوتة بتفاصيل زخرفية في حجارة أخف وزنا وأكثر تشذيبا، وخاصة أن الواجهة الرئيسية مقسمة إلى تسعة أجزاء متساوية مع ثلاثة أجزاء من وحدات سكنية مميزة في الطابق الثاني مع سلسلة من ثلاثة متاجر أسفل كل وحدة سكنية، وبجانبها دار السرايا وبيت الشويحات المؤلف من طابقين، وبيت المصاروة والصوالحة والعلامات وطنوس وغيشان وزوايدة وغيرها من المباني القديمة التي تعطي دلالة أكيدة أن مدينة مادبا من المدن التراثية العريقة تحتم علينا المحافظة على هوية المكان.

 أحمد الشوابكة/ الغد

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة