منــزل عجيـب شـُيــِّد ليصمد سبعة قرون.. وأكثر!

– أحداث الحكاية ترجِـع إلى صيف عام 1287 في كانتون شفيتس وسط سويسرا، بعد أربع سنوات فقط من توقيع البلاد على الميثاق الفدرالي، أي الوثيقة التأسيسية للكنفدرالية السويسرية.

وتنسج خيوط الحكاية أسرة ميسورة الحال من أُسَـر تلك المنطقة التي شرعت في بناء بيت لها من من خشب وجلبت الأخشاب من الغابة القريبة وأخذت تساعد النجّـار المحترف وهو يبني منزل أحلامها.

لقد كانت تعيش لحظات بنائِـه لحظة بلحظة وتنتظر بفارغ الصّـبر أن يكمل بناء المنزل المكوّن من طابقين، ويحدوها الأمل أن تبقى أركان هذا البيت قائمة وينتقل من جيل إلى جيل.

لعلك تستطيع أن تتصوّر لحظة السعادة الغامرة على وجوه أفراد تلك الأسرة، التي أضاع التاريخ إسمها، وهي ترمق بيتها وقد تمّ بناؤه. لا شكّ أنها كانت فخورة أن تحقَّـق لها حلمها الأول، فها هي تعيش في هذا البيت الرّائع المريح، ذي الطابع الحديث والتصميم المناسب. ولكن هل يا تُـرى سيتحقّـق لها حلمها الثاني؟ كم سيبقى هذا البيت الخشبي؟ وكم هي الأجيال التي ستراه؟

يا لَـلعجَـب! ليس معقولا! لقد بقِـي المنزل قائما أكثر من 700 سنة، وبات اليوم مُـتحفا، وهو أقدم البيوت الخشبية في أوروبا.

لقد شاءت الأقدار لهذا البيت، الذي يُـعرف بـ “Bethlehem”، ومعناها بالعربية “بيت لحم”، أن يعيش ويستمر ويُـقاوم نوائب الدّهر، حتى الحريق الذي اندلع في القرن السابع عشر وأتى على معظم بيوت القرية، وحتى النّـكبات كتلك التي أودت بمبنى أثري آخر لا يبعد عنه كثيرا، بل هو على مرمى حجر منه، إنه بيت “Nideröst”، الذي بقي قائما مُـقاوما منذ عام 1176 حتى جرى هدمه عام 2001، فأصبح أثرا بعد عين وخبرا بعد أثر.

الأمْـن والرّخاء

لقد كان للأمن والاستقرار أثرهما البالِـغ في الرخاء والازدهار اللذين عمّـا أرجاء منطقة شفيتس الريفية لمئات السنين، وبدا ذلك واضحا من خلال إرثها التاريخي، الذي يضمّ 12 بيتا خشبيا أثريا، بقي مُـعظمها عامرا حتى اليوم، من بينها “بيت لحم”، وهي تُـعتبر أقدم ما تركه التراث من البيوت الخشبية في أوروبا.

في هذا السياق، أوضح ماركوس باميرت، مسؤول الحفاظ عن الآثار في شفيتس خلال جولة على الأقدام قائلا: “قد يبدو للنّـاظر من الخارج أنها مجرّد منازل ريفية عادية، والحقيقة، أن الأثرياء هُـم فقط مَـن كان بمقدورهم تحمّـل تكاليف مثل هذه الأبنية الفاخرة والفارهة”، وأضاف: “كان الفقراء يعيشون في منازل بسيطة جدا، شبيهة بأكواخ الخشب، ما لبِـثت أن اندَثرت بعد فترة من الزّمن”.

والظاهر أن أصحاب منزل “بيت لحم” الأصليين، كانوا مَـيْـسوري الحال، إلا أنها لم تنقطع حاجتهم عن العمل الشاق، إذ كانوا يعيشون على الفلاحة وكانت لهم بعض المداخيل من خلال خدمات عسكرية ومهام إدارية تابِـعة للبلدة.

على الرغم من صِـغر غُـرفها وانخِـفاض أسقفها، إلا أن الناس لا يزالون حتى اليوم يفضِّـلون العيش في هذه البيوت القديمة، وربّـما يكون هذا هو السِـر الكامِـن وراء طول أعمارها.

قام عالِـم الآثار جورج ديكودر بدراسة عن كثَـب لمعرفة تاريخ مجموعة منازل مدينة شفيتس، مُـعتمدا على عِـلم “علم تاريخ الأشجار”، حيث قام بدراسة حلقات جذوع الأشجار، لتحديد أعمارها والظروف البيئية والمناخية التي عاشت فيها”.

ويقول ديكودر: “استمرت هذه المنازل قائمة لأنها سُكِـنت على الدّوام، وبالتالي تم الاعتناء بها من قبل أناس أحسَـنوا في أسلوب استخدامها، أما البيوت التي تُهجّـر أو تُتْـرك دُونَـما سُكْـنى لوقت طويل، يكون مصيرها الزّوال”.

حياة جديدة

كانت آخر مرّة سُكِن فيها منزل “بيت لحم” أيام الثمانيات، حيث تمّ حينها تقسيمه إلى شُـقّـتين. ثم تمّ تحويله مع نهاية الثمانينات إلى مُـتحف واستمر بذلك يحصل على الرِّعاية والعناية اللاّزمتيْـن.

وقريبا منه، وتحديدا في مدينة شتاينن، تجري حاليا أعمال ترميم لمنزل من الجيل الأصغر، يعود إلى عام 1320.

وتجري أعمال الترميم هذه تحت إشراف ماركوس باميرت، الذي يُـباشر التحقق من مدى مطابقة المواصفات والمواد مع النّـظم المقررة، وهو لا يخفي سعادته بالبيت القديم الذي سينعم – قريبا – بأسرة شابة، تنفث من أنفاسها روحا تبعث الإشراقة في طِـراز أصيل، مَـضت عليه مئات السنين.

ولا يغيب عن البال أن هذه البيوت الأثرية تلقى العناية والتّـحسين من أجيالنا الحاضرة. فمن المؤكّـد أنها كانت أيضا في عناية الأجيال السابقة عبْـر هذا العمر الطويل وأنهم لم يألوا جُـهدا في تحديثها وتحسينها، ولكنها لم تفقِـد أصالتها.

حصل إضافة لبعض الجدران الداخلية وحذف لبعضها الآخر، وتمّ استحداث مسطبة فوق الجِـهة المفتوحة من المطبخ وزيد في بعض أطراف السّـقف، أما النوافذ فكما العادة، هي أول ما يتِـم تغييره، إلا أن معرفة النوافذ الأصلية من غيرها أمر بسيط ولا يحتاج لأكثر من نظرة فاحصة، حتى وإن كانت من غير صاحب خِـبرة.

وعلى الرغم من أن بعض التعديلات قد تمَـس الهيكل الأساسي، كالجدران والأعمدة الحاملة للبناء، إلا أن المنزل يبقى محافِـظا على أصالته وعلى مكوِّناته وموادِّه الأصلية التي تشير إلى تاريخ بنائه.

أما بالنسبة لمنزل “بيت لحم”، فإنه يُـحاكي بقِـدمه كاتدرائية “نوتر دام” (Notre Dame) في باريس، وسجل رقما قياسيا بصِـفته أقدم مسكن خشبي، إلا أن هناك الكثير من المساكن الخشبية القديمة في بلاد أوروبا الشرقية لم يتم تأريخها، فربّـما كانت جديرة في دخول ميدان السباق والمنافسة على القِدَم.

 

منازل متنقلة

لم يقُـم أهل شفيتس فقط بإدخال التّعديلات على بيوتهم عبر السِّنين، بل لعلّـهم – أيضا – قاموا بنقلها عدّة مرات من أماكنها.

وينونه ديكودر إلى أنه كان من الشائع في العصور الوُسطى وبداية العصر الحديث، تفكيك المنازل وإعادة بنائها في مواقع أخرى، “كما كان يوجد في القرن السادس عشر رجال أعمال يقومون بإنشاء البيوت في موضع، ثم يقومون ببيعها ونقلها إلى موضع المشتري”.

كما أن نقل البيوت القائمة كان أوفر تكلفة ووقتا من بناء أخرى، ولذلك، فإن بعض الأسَـر رحّلت معها منازلها، حينما انتقلت للعمل في مناطق جديدة، وبعض الأسر كانت، إذا احترق بيتها، اشترت جديدا ونقلته للاستقرار في المكان الذي كانت تعيش فيه.

وفي هذا الشأن، يبيِّـن ديكودر قائلا: “عرفنا ذلك من خلال بعض الكتابات من ناحية، ومن خلال بعض الحفريات والآثار المكتَـشفة من ناحية أخرى”. وقد توصّـلت دراسة أجرِيت في كانتون أبّـنزل إلى أن نحوا من 20٪ من المساكن الخشبية القديمة الموجودة حاليا، قد تمّ نقلها من أماكنها.

وعلى أية حال، سيبقى منزل “بيت لحم” في مكانه سالِـما آمنا داخل أسوار المُـتحف التاريخي “ايتال ريدنغ” (Ital Reding)، مما يُـتيح لزوار المتحف مُـتعة السفر إلى الماضي البعيد

.رويترز

التعليقات مغلقة.

مقالات ذات علاقة