من دروس الهجرة الثبات وصدق التوكل..// نايف المصاروه
يستقبل العالم الإسلامي اليوم حلول العام الهجري الجديد ،مما يعني أنه مضى 1446 عامًا ،على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ،من مكة المكرمة الى المدينة المنورة، تلك الهجرة التي يجب أن تتعلم الأمة العربية والإسلامية منها الدروس والعبر .
ومن تلك الدروس أنه عليه افضل الصلاه والسلام، هاجر مكرها من مكة التي هي أحب البلاد إلى نفسه ، ولكنّه صلى الله عليه وسلم ،هاجر ولم يركن أو يستسلم ،بل إنه أسّس أمّة في المدينة المنورة وعاد بها إلى مكة فاتحا ومنتصرا .
وهاجر عليه افضل الصلاة والسلام ،وبرفقته رجل مسلم واحد هو صاحبه أبي بكر رضي الله عنه ، لكنه عاد إلى مكة ومعه عشرة آلاف رجل مُسلم مقاتل!
وهاجر عليه افضل الصلاه والسلام ،ليعلّم أمته كلها وإلى قيام الساعة ،أن الأهداف تبقى ثابتة رغم قَسوة الظروف وشدتها ،وتكالب الأعداء ، لكن يقابل ذلك صبر وجلد على كل مكروه وصعب ، والعمل الدؤوب والإعداد الجيد وحسب المستطاع ، والتخطيط السليم والصحيح ، لتحقيق تلك الأهداف.
وهاجَر عليه عليه افضل الصلاه والسلام ،ليعلم الأمة كلها ،مفهوم التوكل واليقين الأكيد ،بأن النصر والتمكين قادم ولو تأخر قليلا ، وأن التغيير نحو الأفضل واقع لا محالة ، وتأملوا قوله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا !
هذا اليقين الذي كان في حياة النبي محمد عليه افضل الصلاه والسلام ،وبه علم أمته وعليه دلها وأدبها ،فوصل ذلك اليقين في ذاك الوقت إلى سراقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجي الكناني ،الذي كان يطلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتتبع أثره طمعا فيما أعدته قريش وحلفاءها من جائزة ،لمن يعود بالنبي عليه السلام الى مكة ، وقد كان سراقة حينها على الكفر، وأسلم لاحقا بعد فتح مكة ،فقال سراقة ،كما صح عند البخاري ،وبعد أن تعثر حصانه مرات ،فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الحَبْسِ عَنْهُمْ، أَنْه سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)) .
وهاجر عليه افضل الصلاه والسلام ،ليعلم أمته أن الهِجرة كانت البداية للتغيير والإصلاح الحقيقي ، للمجتمع والأمة كلها وإلى قيام الساعة.
وهاجر عليه افضل الصلاه والسلام، ليعلم أمته أنّ الحق أبلج ،ولو تعاظم الباطل وأهله ،ومن أجل الحق ،يباع الغالي والنفيس ،وتهجر الأوطان ويترك المال والولدان، ويكون الإعتماد على الذات ،والجد والجِهاد والإجتهاد .
ثم علم أمته كلها أن المسجد هو بيت كل تقي ،وفيه تقوم الشعائر وتجبر الخواطر وتحترم المشاعر ،ومنه تكون رسائل الخير للناس كافة،وفيه أسس منهج الشورى والحكم الرشيد ،وان العدل أساس الملك، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى .
وان طلب العلم باب من ابواب الجهاد وأن العمل والعبادة جهاد ،وأن رأس الأمر في ذلك كله ،هو حسن القصد والإخلاص لله تعالى وحده في كل الأعمال .
تأتي ذكرى الهجرة النبوية المباركة مجددا ، وأمتنا العربية والإسلامية تعاني من الضياع والفرقة والإنقسام ، وتسلط الأعداء ، فإنك أينما وجهت وجهك، ترى مظاهر الفرقة والتقاطع والدمار والتجويع والفقر ، وسفك الدماء والقتل والتشريد والنزوح والتهجير القسري .
وبالرغم من كل عوامل الوحدة والقوة في العقيدة والدين الواحد واللغة والدم ،التي لو وظفت واستخدمت كما يجب ،لكانت أمتنا العربية والإسلامية عزيزة مهابة الجانب كما كانت.
في ذكرى الهجرة ،ما أحوجنا للوقوف على الدروس المستفادة من الهجرة ، لنتعلم منها وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم ، (( وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ ….))الآية 72 الانفال، وان المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلِمُه ولا يُسلِمُه ،(( وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ))الآية 40سورة الحج .
فمتى سننتصر للأطفال والنساء والرجال، اللذين يقتلون ويجرحون على ثرى فلسطين وغزة صباح مساء ،وقد بلغ تعدادهم عشرات الآلاف ،وتهدم البيوت على ساكنيها ،في أكبر وأعظم مسرح للإبادة والتجويع والتطهير العرقي !
تصور يا رعاك الله ،تغتصب بعض حرائر فلسطين ، ويتحرش بهن أبناء القردة والخنازير ،ويموت بعض أهل غزة جوعا ، وبالرغم من كل المحاولات اليائسة والباهتة عربيا واسلاميا ،وصدور عدة قرارات ،من الهيئات الدولية ومجلس الأمن لوقف تلك الحرب المسعورة ، إلا انها تستمر .
وتستتفر شعوب غير عربية ولا مسلمة ،ويرفض قادة وساسة في الغرب ما يجري على أرض فلسطين، وينتصرون لها سياسيا وإنسانيا ،وبكل أسف واسى فإن الخطاب الرسمي ،في عالمنا العربي والإسلامي ،ومنذ بداية الحرب وإلى اليوم لا يزال هو ذاته تحذير واستنكار وإدانه ،ومعها يزداد العدو الصهيوني المحتل شراسة وإجراما.
كم هو مؤلم ما جرى ويجري في السودان ،ومثله في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها من امصار الأمة العربية والإسلامية وأقطارها.
وبكل أسف يجري اغلب ذلك واعظمه، على أيدي العرب والمسلمين أنفسهم ،او بصمتهم المطبق ،او بدعم وتمويل وتخطيط من بعضهم وبالتشارك مع الأعداء .
ختاما..إن الهجرة النبوية مثلت حدثًا هاما ومنعطفا تاريخيًا عظيمًا، إذ منه انطلقت الدولة الإسلاميةالاولى ، وانتشر الإسلام في أرجاء المعمورة ،بعد أن كان محصورًا بين شعاب مكة المكرمة.
وإن الهجرة النبوية،كانت ولا زالت ويجب أن تكون نقطة تحول في كل زمان ، فقد كانت الهجرة النَّبويَّة أعظم حدثٍ حوَّل مجرى التَّاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها؛ التي كانت تحياها أمة العرب ، وتعيش محكومةً بها في صورة قوانين، ونظمٍ، وأعرافٍ، وعاداتٍ، وأخلاقٍ، وسلوكٍ للأفراد والجماعات.
ليست الهجرة خطب رنانة ،وضرب دفوف وموشحات واغاني وطرب ، بل هي جد واجتهاد وجهاد ،للتغيير الحقيقي في الحكم والعبادة والأحكام والعلاقات ،وفي كل مناحي الحياة،وبما يضمن للمسلم حياة العزة والكبرياء ، بعيدا عن واقع الذل والمسكنة ،والاعتماد على الذات لا على الأعداء .
كاتب وباحث وناشر اردني.
التعليقات مغلقة.