ميكي في المطبخ الليلي// سعيد ذياب سليم
ميكي في الثالثة من عمره، سمع صوت مضرب في الليل وهو نائم في سريره، فصرخ: “هدوء!”، ثم انزلق خارجًا من سريره ومن ملابسه، مجتازًا أباه وأمه ليسقط في عتمة الليل عاريًا في وعاء العجين في مطبخ ليلي، حوله ثلاثة خبازين، يرتدون ملابسهم الخاصة، قبعة طويلة ومريلة بيضاء، وفوق شفاههم العليا شارب قصير مثل شارب هتلر. يغنون بمرح: “أضف الحليب إلى الخليط… أضف الحليب… حرّك، أكشط، اعجن… نحن نصنع كعكة الصباح… أضف الحليب…”.
لم يوقفهم سقوط ميكي في الوعاء، بل استمروا في تحريك الخليط الذي أصبح ميكي جزءً منه، واضعين “كعكة ميكي اللذيذة” في ٠الفرن.
لكن ميكي قفز من بين البخار وخرج من الفرن، ليسقط على عجين الخبز ويصنع طائرة منه، واضعا مكيال الحليب فوق رأسه قائلاً: “أنا لست الحليب، أنا الطيار ميكي وسأحضر الحليب بطريقتي”. ركض الخبازون خلفه محاولين الإمساك به وهم يهتفون: “الحليب، الحليب”. طار عاليًا إلى أن بلغ درب اللبانة في المطبخ الليلي، ثم عاد ليغوص في زجاجة الحليب العملاقة وهو يغني: “أنا في الحليب… والحليب فيّ… باركني الله وبارك الله الحليب”. ثم سكب الحليب في الخليط ليضعه الخبازون في الفرن وهم يغنون: “أعددنا الكعكة ولم يعد هناك أي مشكلة”.
ثم صرخ ميكي: “كو كو… كوكووو”، معلنًا بزوغ الفجر، وانزلق عائدًا إلى سريره سالمًا، جافًا، وخاليًا من أثر العجين. وهكذا، فالفضل لميكي أننا نتناول الكعك في الصباح.
قصة هذا الحلم المغامرة صاغها الكاتب “موريس سينداك” في كتاب الأطفال المصور “في مطبخ الليل” من رسمه وتصميمه. نلاحظ أنه لا يخلو من إسقاطات الإرث اليهودي حول المحرقة، فهو ابن لأسرة من المهاجرين اليهود من أصل بولندي، لهذا رسم الخبازين حول الفرن بشارب هتلر في رمزية مبطنة للمحرقة.
يمتاز الكتاب بالخيال الخصب وجمال الرسومات والتصميم وبساطتها وارتباطها بالثقافة العامة وسيكولوجيا الحلم.
واجه هذا الكتاب نقدا لاذعا بسبب عري الطفل الذي صُوِّر من الأمام بعضوه الذكري الواضح، مما دفع بعض قيّمي المكتبات إلى رسم حفاظة تخفي عري الطفل، والبعض رفع الكتاب إلى رف أعلى حتى لا يطاله الأطفال دون السادسة، بل إن البعض منعه من التداول. وكان مدار النقاش حول ملاءمة العري لأدب الأطفال. وتذكر المصادر أنه كان أحد الكتب المثيرة للجدل منذ صدوره سنة 1970 وما زال في القرن الحادي والعشرين يُدرج في النقاش باعتباره من الكتب الرائدة والجريئة في أدب الأطفال في تحديه للمعايير التقليدية.
عزيزي القارئ، بعيدًا عن رفاهية المجتمع الأمريكي الصباحية ومثله العليا، في أتون غزة عاشت ليلى.
في ظل ركام البيت، تجلس الأم وفي حضنها طفلتها ليلى. صغيرة ليلى، هزيلة، باكية، وجائعة، وآثار حروق تنتشر على يديها ووجهها الصغير. تسكت هنيهة وتنظر إلى ما تبقى من ساقها المبتورة. “ماما… أصابع قدمي تؤلمني”. وتنظر الأم في حيرة، تلمس بحذر جذع الساق المبتور، تبلع غصة في حلقها، ثم تعيد ترويدة عروستها ليلى: “يا رويدتنا يا ليلى، يا رويدتنا يا هيي… في السماء نجمة يا ليلى… في السماء لوحي يا هيي…” وتهزها برفق لتصرفها عن آلامها، وهي تحدق في الفراغ، تتذكر كيف بترت إحدى الشظايا المتطايرة ساق طفلتها.
بين رتابة صوت أمها الحنون وحركتها الدورية المتواصلة، أصابت ليلى إغفاءة، انزلقت فيها إلى حلم غريب. كانت تقف على قدميها، تسير على رمال الشاطئ البيضاء، تقفز، تدور راقصة، ثم تركض ناظرة إلى آثار قدميها على رمال الشاطئ المبلول. تقف في طرف الماء، تلاعب الموجة التي تأتيها مسرعة فتتراجع ليلى، لكن الموجة تدركها وتغرق قدميها. تضحك ليلى وتضحك لها الموجات، ويداعب الريح شعرها، يتأرجح مع نسمات البحر ويتماوج، بينما تتطاير خصلات شعرها تلتصق خصلة بجبينها الذي بلله رذاذ البحر. تدور، تدور ويطير حولها فستانها الأبيض بوروده الزرقاء. ثم تقذفها الموجة بأرغفة خبز كثيرة مستديرة، ذهبية، محمرة، ورائحتها شهية. تأكل ليلى قطعة خبز وتخبئ رغيفًا لأمها.
هدير طائرة في السماء تنقلب بحركات بهلوانية سريعة، تركت على الأرض نارًا ودخانًا وغبارًا ودماءً. لم تعد ليلى من الشاطئ ولم تكمل أمها ترويدتها. في الليل، ترى نجمة صغيرة تلمع، ترسل طيفًا أزرقًا مرة وأبيضا أخرى، حولها آلاف النجمات، كلهم أطفال غزة.
هل تقبل المعايير التقليدية الأمريكية ما يحدث لأطفال غزة؟
التعليقات مغلقة.