وسام الاستقلال لنهاد الموسى // د. حفظي اشتية
عظيمة هي الدولة التي تكرّم النبغاء المخلصين المنتجين النافعين العظماء من أبنائها، قد سرّنا كثيرا تكريم د. نهاد الموسى أخيراً بوسام مستحق يمثّل نبل مَن أعطى، وجدارة مَن نال.
إنه نهاد الموسى: فوق الألقاب وأعلى من الرتب وأوسع من الشهادات وأسمى من الدرجات، زيتونة كنعانية عاصرت الروم جذورها في فلسطين، وجذوعها وأغصانها في الأردن، وجناها وجذوتها في أجنحة الوطن العربي وجنبات العالم.
كانت شمس الجامعة الأردنية لمّا تزلْ في مدارج خدرها عندما حبَوْنا نحوها – نحن طلاب قسم اللغة العربية- مطلع سبعينيات القرن الماضي، قادمين من أصقاع الوطن، عبر رئتي النهر المقدّس شرقاً وغرباً، معظمنا طلاب فقراء، لكننا متفوقون، بضع عشرات يمثلون أوائل محافظات المملكة الواحدة الواعدة.
بنايتان متواضعتان تضمان كليّة الآداب، غارقتان في غابة من الأشجار، وأخبار نتلقفها عن أساتذتنا من زملاء سبقونا، تزرع في صدورنا الجلال والهيبة، فإذا ذُكر اسم نهاد الموسى ارتفعت الأصوات محذّرةً: إياك أنْ تتحدّث أمامه بغير اللغة الفصحى، وحذارِ أنْ تلحن في حضرته فتندم طويلا.
قالوا: إنه سيُجري للطلاب المستجدين امتحاناً شفوياً سابراً. وقفنا في الممر الطويل، ندخل إلى مكتبه فُرادى، نمسك بتلابيب مَن يخرج ليروي ظمأنا عسى أنْ يخفّف عنّا شيئاً من الفزع الأكبر الذي ينتظرنا.
دخلتُ وسلمتُ، وطلب إليّ الجلوس، وسأل: ما اسمك يا فتى؟ أجبت: حفظي. قال: أنسبةٌ هو اسمك أم إضافة؟ يا ويح اسمي!! إنه يفرد جناحيه على بابين ضخمين من أبواب النحو العربي العتيد، وجوابي سيترتب عليه أشقيّ أنا أم سعيد. تذكرت أنْ والدي رحمه الله كان ضنيناً بحروف اللغة العربية، فلم يُردْ أنْ يبعثرها ويبددها على أسمائنا؛ فاسمه حافظ، ولذلك توالت أسماؤنا: حفظية، محفوظة، حفظي، محفوظ، حفيظة، فلمع في ذهني أنّه استأثر في الحفظ لنفسه، فأجبت: اسمي من باب الإضافة، يعني: هو حفظ مضاف إلى ياء المتكلم. نظر فيّ طويلاً، وأنا أغضي خجِلا وجِلا، وكأنني لمحت طيف ابتسامة لاحت، وقال: انطلق راشداً. وفهمت فيما بعد أنّ هذه الجملة يقولها لمن يُسرُّ به ويرضى عنه.
قرأنا على يديه النحو تباعاً في مرحلة البكالوريوس، ثمّ قرأنا عليه النحو العالي في الدكتوراة، وما كان يفوتنا متابعة جهده الإداري رئيساً لقسم اللغة العربية، ثمّ نائباً فعميداً لكليّة الآداب، وحرصنا على متابعة محاضراته وندواته ومناظراته، واغتالنا سحر شخصيته، وعمق عبقريته، وفتنتنا لغته فلا ندري أنحو أدب ندرس أم أدب نحو؟!
وشدتنا حركات يديه حين يحمى الوطيس، ويشتدّ النقاش، فنراها كأنها قد أمسكتْ بأشطان بئر تغوص عميقاً لتغرف من أشتات لغة عاد إرم ذات العماد، بعيدة المرامي، سهلة التناول، ساحرة الصور، عذبة البيان، اتحد فيها الماضي والحاضر، وتراخت سطوة قبضة الزمان، وتآخت عمامة سيبويه وذؤابتا ابن جني وأفكارهما مع دي سوسير وتشومسكي وأحدث نتاجات الدرس اللغوي، وتماهى المكان، فتراءت أمام النواظر قصور شواهق تسبح بين خيام شوامخ، ولباس عصري غربي قد التبس بأردية محبرة من برود باذخة يرتديها أمير كندي.
حتى إذا عاينّا جهده التأليفي وجدنا أنفسنا نغرق في بحر لجّيّ من الفكر المؤصّل والمستحدث والنظرات النقدية: عشرات الأبحاث والكتب، ومناهج تعليمية لعدّة بلدان عربية، ومشروع ضخم للتحوّل- إلى الفصحى وحلّ مشكلة الازدواجية اللغوية، وربط للعربية مع الحوسبة العالمية….ألخ.
نقف أمام نتاجه فنعدّ منه ولا نستطيع عدّه، ونؤمن أنّ هذا العالِم الفرد الفذّ كان وحده أمّة.
رنّ اسمه في قاعة التكريم فرساً غاب فارسها، وبارودة ما طلّ صاحبها، فخيّم على المشهد غياب عبدالله المفجع، والنوح الأبيّ الشجيّ لدريد :
تنادَوا فقالوا أردتْ الخيل فارساً فقلت” أبو إياس” ذلكم الردي؟
فإن يكُ” شيخ النحو” خلّى مكانه فما كان وقّافاً ولا طائش اليدِ
لكنْ، أطلّت مهرة عربية الاسم واللسان والجنان، أطلّت جهينة، عرفتها إذ تذكرتُ إهداءه في مقدمة أصغر كتبه حجماً وأخطرها شأناً (نظرية النحو العربي) الذي صدّره بقوله: ( إلى هند وإياد وجهينة وإياس وصفوة وفهم، تحية لصحبتهم ورجعاً لإيقاعهم. نهاد ).
أستاذنا، يا معلّم الجيل، يا شيخنا الجليل، نحن مدينون لك، ولن ننسى فضلك. لن ننسى هيبتك وحكمتك وبحور علمك وبهاء طلعتك وأناقة هندامك وبوح عطرك وسيجارك . أمّا صوتك فذاك حكاية أخرى ترويها رنّته الساحرة في آذاننا، وإيقاعه الرخيم في أذهاننا.
أنت ملكت قلوبنا التي تدعو لك بطول عمر منعّم بصحة البدن والروح. كرّمتكَ الدولة بوسام، ونحن نضعك وساماً على صدورنا ما حيينا.
وكان قد سرّنا جداً تكريم عميد الأدب العابر للعصور” د. وليد سيف”، الذي أحيا تراثاً مجيداً، وأعاد زهوه من جديد، وبعث أعدل قضية عربية مجدداً لتدخل كلّ بيت، وكلّ قلب، وتصبح الهمّ الشخصيّ لكلّ عربيّ.
وأساتذتنا جميعاً جديرون بكلّ تكريم: أسد العصر ناصر الدين، والياغيان أحدهما قيد أوابد أدب العصر الجاهلي يسلمه إلى المؤتمَن على الأدب العصري، والشيخ المهيب عبدالكريم خليفة، وقارِن النقد العربي بالغربي محمود السمرة، وخازِن التراث الأمين إحسان عباس، وسادِن الحكمة راهب القسم نصرت عبدالرحمن، وقيّم أدب مصر والشام محمود إبراهيم، وحارس القدس عبدالجليل عبد المهدي، وقبس معجز أحمد خالد الكركي، والموشّح الاندلسي البهيّ صلاح جرار، وأمين سرّ بني أميّة حسين عطوان، وذائق النقد إبراهيم سعيفان،ورائد اللغويات المقارنة إسماعيل عمايرة، وملهمة النحو عصمت غوشة، وصيرفيّا النحو والصرف محمود حسني ومحمد حسن عواد، ونديما البلاغة محمد بركات أبو علي وعبدالكريم الحياري.
رحم الله مَن مات من أساتذتنا الأجلّاء، وعلى مثلهم فلتبكِ البواكي. وأمدّ في عمر الباقين منعّمين بطاعته، ولطيف فضله ورعايته. وسنظل عاجزين عن الوفاء بحقهم، فقد لهثنا عمراً لنقفو آثار أقدامهم، فردّ الغبار بصرنا خاسئاً وهو حسير.
التعليقات مغلقة.