هيا إلى الغابة // سعيد ذياب سليم
–
هيا معي إلى الغابة! لن نصطاد أسودا ولن نلاحق قردة ولن نتسلق الأشجار فقد كبرت الأشجار و كبرنا بل نبني لنا كوخا تحت شجرها و نعيش في أكنافها و نقتات ثمرها و نستطب بأعشابها.
اتكئْ على عصاك وتعال واسلك بنا درب الفلاسفة القدماء نسير على هدى القنديل نبحث عن الحقيقة سأحمل عنك القنديل فلا حرج عليك.
لنخرج عن إيقاع حياتنا الرتيب ونلبس الخشن من الثياب ونترك وراءنا أسباب الرفاهية فتلك معيقات تُضعِف جذوة العقل ونور الروح ولهفة القلب، تعال نسهر الليل ونطيل النظر في عيونه البراقة ونستقبل الفجر نجمع قطرات الندى في كؤوس من رحيق ذاك هو “إصنص” السعادة و إكسير الحياة.
لن نكون أول الناس ولا آخرهم تعال نحذو حذو “ديفيد هنري ثورو ” الذي عاش سنتين و شهرين ويومين في كوخ في الغابة على مقربة من بلدة “كونكورد” على شاطئ بحبرة “والدن” في ولاية “ماساتشوستس” للتأمل في الحياة و معناها ثم ليخرج بكتابه “والدن أو الحياة في الغابة” ” waden Or Life In The Woods” ويتناقل الناس أخبار تجربته مع الطبيعة و آرائه باعتباره أحد أتباع الفلسفة المتعالية “Transcendentalism” والتي يعتمد جوهرها على أن الخير متأصل في الطبيعة و البشر وقد قامت على الاعتقاد بأن المعرفة ليست محصورة في الخبرة والملاحظة بل يؤمنون أيضا بقدرة العقل للوصول إلى الحقيقة.
نشر كتابه ذاك سنة 1854 على نفقته الخاصة طبع منه 1000 نسخة باع منها ذلك العام 300 فقط ، يعد من الكتب الأمريكية الكلاسيكية.
كتب مذكراته عن الفترة التي قضاها في الغابة خلال فصول السنة الأربعة ، تطرق فيه لأحوال زمانه والمجتمع و آرائه الخاصة وأسلوبه في الحياة.
تنقلتُ بين النسخة الإنجليزية و العربية فكنت كمن يسير في أحد ممرات الغابة متعثرا تارة و مندهشا تارة، لا أخفي عليكم أنه كتاب صعب بأسلوب سرده القديم. خاض في موضوعات عديدة و جعل من الأشياء العادية مغامرة، تحدث عن كوخه كيف بناه وكم كلفه ذلك، وكيف أقام مدخنته، ثم كيف كان يعجن دون استخدامه للخميرة، وكيف حصل على الملح و السكر من بيئته.
للوهلة الأولى ترى خيوطا متشابكة لكن بقليل من الصبر تستطيع متابعة مخزونه الغني من الأفكار وسعة اطّلاعه على الميثولوجيا الإغريقية و الإسكندنافية و الهندية، لم ينس أهمية القراءة و تنوعها والتشجيع عليها فأفرد لها فصلا كاملا من بين فصول الكتاب السبعة عشر.
وصف بإسهاب ما يصل إليه من أصوات الطيور والحيوانات وهو جالس يقرأ كتابه في كوخه وما كانت تثيره الأصوات في نفسه من سعادة أو إثارة أو حزن ،هل كانت أرواح الغابة تندب حظها؟
إذا أطل من نافذته يرى أشجار الصنوبر و البلوط و عائلة منوعة من البيئة النباتية ألوانها و أحجامها وطعم بعض ثمارها التي تبدو كالجواهر، تهتز الأغصان ولا تكف الأوراق عن الهمس بأسرارها، ومن على مقربة من كوخه يرى طيور الماء تسقط من الهواء وتغوص في مياه البحيرة ثم تخرج و في مخالبها ما اصطادته من أسماك .
وصف ذلك وصفا حيا يجعلك تحس به وتسمع حتى صفير القطار يمر بجواره ليلا نهارا مثلما سمعه وتشعر بقطرات المطر على وجهك وتسمعها تعزف موسيقى السرور، كل ذلك جعله يشعر بصداقته للأشياء من حوله و أن الوحدة هي أفضل أصدقائه.
إلا أنه لم يكن وحيدا دائما فقد مر بكوخه رواد الغابة والمتجولون فيها من فلاسفة و شعراء وصيادون وزوار من جميع الأعمار و من كلا الجنسين بل أنه صادق البسطاء والرعاة والحطابين ومر به بعض الهاربين من العبيد فقد كان نظام العبيد ما زال قائما بعد.
كان يعرض على ضيفه ما لديه من طعام قليل و وعاء لمن أراد أن يغرف ليشرب من البحيرة، كان يناقش زواره حتى يضيق كوخه بالأفكار.
يصف بفخر تجربته في زراعة حقله بالفاصوليا والبازيلاء و البطاطا و الشمندر، كيف عزق الأرض و نزعِ الأعشاب البرية من حولها، لم يوفر لها أي نوع من السماد -ولا حتى الروث- لمساعدتها في النمو وإنما اكتفى بما تحويه الأرض من بقايا الشعوب البائدة، وتحمّل سخرية من مر بحقله وشاهد صنعه.
صرف عليها 14.7$ وجنى من بيعه للمحصول 23.44$ بعدما أخذت الحيوانات القارضة حصتها.
لم يكرر التجربة لكنه تخيل لو زرعها في الموسم التالي بذور الأمانة و الصدق والبساطة و الإيمان و البراءة أي نوع من الرجال سينتج أم أنها ستتعفن في الأرض؟
لم ينقطع حبل أفكاره و هو يعتني بمحصوله، ولم يكف عن سرد الشعر من وقت لآخر -مثل أشعار صديقه ” وليام اليري تشانينج “- و مراقبة الجو الاحتفالي لأصوات البارود ولم يخفي سخريته من الحرب مع المكسيك التي حدثت أثناء وجوده في تلك الغابة.
كان يزور القرية من وقت لآخر يلتقط الأخبار من أفواه الناس أو ليرقع حذاءه ويشتري حاجته ويذكر أنه ألقي القبض عليه في إحدى المرات وقضى ليلة في السجن لأنه لم يكن قد دفع إحدى الضرائب الحكومية، و إذا جن عليه الليل في طريق عودته تحسست قدماه الدرب حتى يصل كوخه ، حذرا أن يحدث له ما حدث لكثير من أبناء المنطقة الذين أمضوا الليل في الغابة يبحثون عن الطريق و قد بللهم المطر.
توقف عند البحيرات في تلك المنطقة “والدن” و “فلينت” و “وايت” وصفها وقارن وفاضل بينها من حيث صفائها و نقاء مياهها و أسماكها و محيطها و شواطئها وكيف جنت أيدي الحطابين على أشجار الغابة عبر السنوات، وكيف كان مستوى سطحها يعلو و يهبط كل بضع سنين، سردٌ جميل كالشعر فيه تتلون المياه بين الزرقة السماوية و الخضرة عاكسة أطياف ما حولها من شجر أو شطآن وصفها وصف من عاش و تربى حولها منذ الصغر وله حكاياته عنها التي لا تنضب.
الغريزة الإنسانية وتعلقها بالصيد واقترابه بذلك من المستوى الأدنى للخلق جعل فيلسوفنا هذا ينبذ صيد الطيور و الحيوانات ويمارس صيد السمك عند الحاجة لكنه لم يتوقف عن لوم نفسه لذلك محاولا أن يرتقي إلى مستوى روحي و أخلاقي أسمى ومكتفيا بوجبة نباتية مشبِعة دون أن يلتفت لشرب الشاي أو القهوة ناحيا منحى التقشف في الحياة.
هل رأيت جيشا من النمل ينقض على آخر؟ ولاحظت كيف تمسك النملة قرن الأخرى تطبق عليه بفكيها حتى تقطعه! لم تر الضحايا من الطرفين البعض يحتضر و البعض يعرج بقدم يبحث عن ملاذ؟
هل سمعت طائر غواص الماء السماك يضحك ضحكته الغريبة وكأنه يسخر منك؟ يغوص في مكان من البحيرة ليظهر في مكان لا تتوقعه!
أما رأيت طائر الحجل يدور حولك يلهيك عن صغاره؟
لا بمكن حصر ما تراه في الغابة لأنشطة الطيور و الحيوانات، و الأشجار الضخمة التي تذكرك بالكائنات الأسطورية تحدّث عن بعضها الكاتب حديثا شيقا يثير في نفسك اللهفة لتنظر بعينيك ما رآه.
وصف لنا صديقنا الفيلسوف كيف كان يلهو متزحلقا على سطح البحيرة أثناء تجمدها في الشتاء، وكيف أتاح له تجمدها طرقا جديدة مختصرة لمسافات بعيدة، وكيف كان تجار الثلج يحصدونه من سطحها.
عندما غطى الثلج أرض الغابة وشحّ قوت الطيور هاجرت أسراب البط إلى الجنوب واختفت الكائنات، فما بقي له من لهو إلا أن ألقى من خلال نافذته عددا من أكواز الذرة فجاءته السناجب تركض و تتزحلق بطريقة مضحكة تتناول هذه اللقية بين الشك و الدهشة هي و أسراب طيور أبو زريق و القرقف والحجل لتتناول ما يسقط من السناجب من حبوب تنقرها حتى تكسرها ثم تبلعها، ولم تتردد الأرانب في زيارة كوخ صديقنا تقتات قشور البطاطا الملقاة في بابه حذرة متنبهة.
هلّ الربيع و أشرقت الشمس بعد ظلمة الشتاء وساعاته البليدة، وضجت البحيرة بصوت تكسر الجليد أزّت ورعدت وتقلصت كتل الثلج حتى اختفت، يحدث ذلك عادة بين منتصف آذار و منتصف إبريل، وتسمع أول صفير الطيور ورفرفة أجنحتها و تلعب السناجب من حولك، وتعود أسراب الإوز و البط من هجرتها، ترتفع أغصان الشجر التي أثقلتها الثلوج و تستيقظ من سباتها، تشرق الأرض باللون الأخضر و تتفتح البراعم ، وكأنها لحظة الخلق مرة أخرى، ربط فيلسوفنا جمال ما يرى بطهر النفس والفضيلة.
كانت مغادرته للغابة في 6 من سبتمبر 1847، ذكر في الخاتمة أنه غادر الغابة للأسباب الوجيهة نفسها التي أتت به إليها ليعيش حيوات أخرى.
عزيزي القارئ لا تقل الإثارة بين صفحات الكتاب عن الحياة في الغابة. أرجو أن يعجبك رفرفة أفكاره وزقزقاتها.
سعيد ذياب سليم
التعليقات مغلقة.