القراءة والثورة الرقمية// سعيد ذياب سليم
=
ما زلتُ أستطيع القراءة -الحمد لله- وأختلي بكتاب ورقي من وقت لآخر، مسافرًا على جناحي قصيدة أو مبحرًا في قارب السرد. إلا أنني أصبحت أفضّل القراءة باستخدام التكنولوجيا الرقمية من خلال تطبيقات خاصة على الهاتف الذكي أو الأجهزة الرقمية الأخرى. ولأن القراءة هي الحياة، فسأستمر في القراءة، كما عشتُ اللهفة الأولى في التعرف على تلك الشخصيات التي أبدع في اختراعها كتّاب عظام؛ نضحك لها إذا فرحت، ونبكي معها إذا تعثرت، ونرقص إذا رقصت، كما فعلنا مع “زوربا اليوناني” الذي صاغه لنا “نيكوس كازانتزاكيس”.
ماذا عن الجيل الفتي القادم؟ أما زال هناك من الأسرار ما تبوح لهم به الكتب ؟ أم أن ارتباطهم بالتكنولوجيا الرقمية وما تقدمه من خيارات يغنيهم عن النظر في كتاب؟
بعد أيام، سيعود أبناؤنا إلى مقاعدهم الدراسية. منهم من سيكتشف الحرف والكلمة لأول مرة، ومنهم من لا يزال في مرحلة التأسيس، ومنهم من أشرف على مغادرة الصف إلى الحياة العملية أو الجامعية. فهل سيكون الكتاب الصديق والمعلم كما كان دائمًا؟ وأي نوع من الكتب هو الأنسب في ظل هذا التنوع المذهل بين الكتاب الورقي، والنص الرقمي، والكتب الصوتية، ومقاطع الفيديو، والتعليم عن بُعد؟ أم أن الغرض من القراءة بين الترفيه والتعليم والفهم هو الذي يحدد ذلك؟
لا شك أن قراءة الكلمة المطبوعة على الورق تجعل للكتاب حضورًا مميزًا وملمسًا ماديًا يثير المشاعر. فعندما تفتح كتابًا جديدًا، تشدك رائحة الورق والحبر، وتغلبك العاطفة وكأنك في حضرة حبيب؛ هذا الصديق الذي شاركك مغامراتك واحتفظ بأسرارك، وكم من مرة نمتَ ونامَ على صدرك.
يتيح لنا الكتاب الورقي طريقة القراءة الخطية “Linear Reading” من البداية حتى النهاية، كلمة بكلمة، وجملة إثر جملة، وفقرة بعد فقرة، بتأنٍّ وعمق يساعدان على فهم واستيعاب ما نقرأه، حيث لا يوجد فيه ما يخرجك عن السياق. هذه الطريقة في القراءة تناسب الكتاب والرواية أو المقال، حيث تكون الفكرة مرتبطة بتسلسل معين.
بينما يتيح لنا النص الرقمي طريقة القراءة المجدولة “Tabular Reading”، التي يمكن للقارئ من خلالها البحث عن معلومة معينة والانتقال إليها برشاقة، أو ترجمة مصطلح يقابله لأول مرة والبحث عنه عبر الإنترنت. قد يجد القارئ رابطًا يرسله إلى صورة أو مقطع صوتي أو مقطع مصور، وربما إلى نص رقمي آخر. تناسب هذه الطريقة قراءة التقارير أو الأوراق البحثية أو النصوص التي تحتوي على معلومات مجدولة أو صور بيانية.
لا بد أنك لاحظت أن النص الرقمي يحتوي على مصادر للتشتت تتحدى تركيز القارئ واستيعابه للنص. في الحقيقة، فرضت علينا هذه الوسائل التكنولوجية المعاصرة طريقة جديدة في التفكير وبناء المعلومة.
إذن، يتجاذب القارئ اليوم طريقتان: التقليدية العميقة والرقمية السطحية. ويوجد في الميدان قارئان؛ الأول هو القارئ الكبير المتمرّس الذي اعتاد على الكتاب الورقي، والآخر هو الناشئ الصغير المعاصر للثورة الرقمية، والذي يقف على مفترق الطريق بين القديم والحديث.
هل يستطيع المعلم -أو المتعلم- الموازنة بين الكتاب والنص الرقمي؟ للإجابة على هذا السؤال، علينا مقارنة ما تقدمه الطريقتان من خيارات، والتفكير في القضية من عدة أوجه، مثل تكلفة الكتب الورقية الباهظة مقابل الكم الهائل من المصادر الرقمية ورخصها، والمشاكل الصحية التي يثيرها التحديق في الشاشة، وعدم استخدام الورق الذي يساعد في المحافظة على البيئة.
إلا أن المهارة في استخدام التكنولوجيا والشعور بالثقة الزائدة قد يتسببان في القراءة السطحية والانشغال بما تتيحه الوسيلة من مزايا، مما يضعف المقدرة على التركيز، والاستيعاب، واسترجاع المعلومة بعكس القراءة التقليدية.
هل نستطيع الموازنة إذن؟ تحدثت الباحثة “ماريان وولف” (Maryanne Wolf) في كتابها “أيها القارئ عد إلى البيت” (Reader, Come Home) عن المشكلة وتناولتها بالبحث والتحليل. ابتكرت “وولف” مصطلح “biliterate brain” أو “الدماغ ثنائي القراءة”، وهو مفهوم يتعلق بقدرة الدماغ على معالجة كل من القراءة التقليدية المطبوعة والقراءة الرقمية. تستكشف الباحثة كيفية تكيف الدماغ مع أشكال القراءة المختلفة، وتؤكد الحاجة إلى تطوير “دماغ ثنائي القراءة” يستطيع التنقل بين القراءة المتعمقة في النصوص المطبوعة والقراءة الأكثر سطحية التي غالبًا ما ترتبط بالوسائط الرقمية. يعتبر هذا المفهوم جوهريًا في حجتها حول التغير في طبيعة القراءة في عصر التكنولوجيا الرقمية.
علمًا بأن الطريقتين تسمحان للقارئ باستخدام استراتيجيات القراءة السريعة، كالمسح البصري، واستراتيجيات القراءة البطيئة المتأنية أو التحليلية أو العاكسة.
إلا أن ما توفره كتب الأطفال الإلكترونية من نص، وصورة، وقراءة “أتوماتيكية”، وتقنية التواصل الحركي، وميل الطفل للعب بطبيعته، قد يجذبه للإحساس البصري والسمعي أكثر من قراءة النص. فهل يمكن لمراقبة المعلم/الأم لنشاطه سد هذه الثغرة؟ وما هو العمر المناسب لتعريض الطفل للأجهزة الرقمية؟ وكم من الوقت يجب أن يقضي عليها يوميًا؟ وهل تساعد هذه التكنولوجيا في معالجة مشاكل القراءة مثل عسر القراءة (dyslexia)؟ هل يمكن تدارك الموقف وقد انتشرت أجهزة الهاتف الذكية بين أيدي أبنائنا؟
هناك العديد من القضايا التي أثارها انتشار وتطور التكنولوجيا الرقمية والوسائط المتعددة “Multimedia”، واعتمادنا عليها الذي وصل إلى حد الإدمان. جعلتنا نعاني من ضعف التركيز، والتشتت، والتوتر، والعصبية، وقلة الصبر، وضعف في استيعاب الجمال ومعرفة الحقيقة. كل هذا أدى إلى ضعف في اتخاذ القرار!
أما عن أصدقائي، فمنهم من يقف مبهورًا أمام الكتاب الإلكتروني الثري بخياراته، ولم يتوان عن الإعلان عن موت الكتاب الورقي ووضعه تحفة بجوار المزهرية. ومنهم ذلك الرومانسي الذي قال: “الفرق بين الكتاب الورقي والكتاب الرقمي كأنك تدخل غابة الصنوبر، تشتم رائحته والتراب، وتغسل قدميك بماء النهر البارد، وبين أن ترى كل ذلك في مشهد سينمائي وأنت تجلس على كنب وثير”. يبدو أنه متعلّق بالملمس المادي للكتاب الورقي وما يتيحه له الخيال الجامح. أثار صديق ثالث ملاحظة مهمة قائلا “كيف أترك الكتاب وقلمي يعشق ملمس الورق وهو يدون ملاحظاتي .. من حق أولادي أن يشاهدوا حياتي و أفكاري في كتبي” فالكتاب رسول بين الأجيال.
هل تؤثر هذه التباينات على القراءة التي لا يمكن الاستغناء عنها؟ وقد قال “فريدريك دوغلاس” ذات مرة: “بمجرد أن تتعلم القراءة ستكون حرًا إلى الأبد”. فمن منا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين في غنى عن حريته؟
التعليقات مغلقة.