«أم الجـمــال».. قصة حضارية وإنسانية تتجلى بالصحراء الأردنية
بين رمال الصحراء الأردنية القاسية، وعلى بعد عشرين كيلومترًا شرق مدينة المفرق، تبرز مدينة أم الجمال كواحدة من أروع المواقع الأثرية التي تجسد عبقرية الإنسان في التأقلم والبناء والتواصل الحضاري عبر العصور. تقع هذه المدينة التاريخية على بعد 86 كيلومترًا من العاصمة عمان. إنها ليست مجرد مدينة أثرية، بل هي سردية حياة، تعكس قدرة الإنسان على التكيف مع مختلف الثقافات التي مرت عليها.
التأقلم مع الثقافات المختلفة
ما يميز أم الجمال هو نظامها المائي المتكامل الذي يجمع بين تأثيري النظامين النبطي والروماني، وهو نظام حافظ عليه السكان المحليون وطوّروه عبر الزمن. يعبر هذا النظام الهيدروليكي، الذي بدأ منذ الفترة النبطية واستمر حتى الوقت الحاضر، عن تعاون وإبداع المواطنين في إنشاء بنية تحتية مستدامة.
لا يمكن تجاهل تقنيات البناء التي ابتكرها المعماريون المحليون، والتي تشمل استخدام السلالم الطائرة رغم صعوبة تنفيذها على الحجر البازلتي المحلي. إن وجود النقوش المتعددة باللغات النبطية، واليونانية، والصفائية، والحسمائية، واللاتينية، والإسلامية يعكس تمازج أم الجمال بالحضارات المختلفة، مما جعلها بوتقة للتنوع الثقافي والهوياتي.
الأهمية الرومانية والتحصينات الدفاعية
ازداد اهتمام الرومان بالمدينة، فأصبحت جزءًا من الخط الدفاعي الروماني. كان الهدف من ذلك حماية القوافل التجارية المتجهة شمالًا والمدن الواقعة على طول هذا الطريق، بالإضافة إلى ضبط تحركات القبائل البدوية في الشرق. في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الميلاديين، ومع تزايد ضغوط القبائل البدوية، قامت الإمبراطورية الرومانية بتعزيز التحصينات الدفاعية، ومن أبرز معالمها بناء سور حول المدينة يحتوي على بوابات وأبراج للمراقبة، وأشهرها بوابة كومودوس.
الأهمية الدينية في الفترات المسيحية
احتلت أم الجمال مكانة دينية مهمة في الفترة المسيحية المبكرة، ويتجلى ذلك في عدد الكنائس المكتشفة، والتي يزيد عددها عن خمس عشرة كنيسة. يُبرز الطابع الفريد للعمارة الدينية في المدينة في الفترتين البيزنطية والأموية، حيث بُنيت الكنائس من الحجارة السوداء، مما أضفى عليها طابعًا مميزًا.
المعالم الرئيسة في أم الجمال
من أبرز معالم أم الجمال هو المعبد النبطي الذي يقع في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة، بالقرب من البوابة الغربية. كما توجد الاستراحة النبطية التي تعود إلى القرن الأول الميلادي، والثكنة العسكرية الرومانية التي بُنيت لحماية القوافل التجارية.
سور المدينة والبوابات
تم تحصين المدينة بسور يحتوي على ست بوابات، وأهمها بوابة كومودوس في الجهة الشمالية الغربية. كما يبرز مبنى الحاكم الإداري الروماني (البروتوريوم)، الذي بُني في بداية القرن الرابع الميلادي، كمثال رائع على العمارة الرومانية.
الهندسة المائية في أم الجمال
يعتبر النظام المائي في أم الجمال مثالًا متميزًا لنظام الحصاد المائي. كانت المدينة تعتمد على جمع المياه من الأودية القريبة وتخزينها في خزانات وبرك مائية كبيرة مسقوفة للحفاظ عليها من التبخر والتلوث. كان هذا النظام ضروريًا لضمان استمرارية الحياة في منطقة قاحلة تفتقر إلى مصادر المياه الدائمة.
الثقافة والحضارات والنقوش
تُعد النقوش المكتشفة في أم الجمال شهادة حية على التنوع الثقافي الذي شهدته المدينة. من النقوش الصفائية، إلى الخط النبطي المتطور، والنقوش اللاتينية، وثنائية اللغة (النبطية واليونانية)، وصولًا إلى النقوش الجنائزية والتذكارية المكتوبة باللغة اللاتينية، تعكس جميعها حياة الناس وتفاعلهم مع الحضارات المتعاقبة.
الازدهار والتعايش الحضاري
قصة أم الجمال هي قصة نجاح الإنسان في التأقلم مع الظروف البيئية القاسية، وخلق مجتمع مزدهر يعتمد على الزراعة وتربية الحيوانات، والحفاظ على نظام مائي متكامل. هذا الجهد الرائع في الحفاظ على المدينة جعلها تبرز كمثال على التعايش الحضاري والقدرة على التطور في شتى المناحي.
الاعتراف العالمي
في الختام، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) موقع أم الجمال الأثري في قائمتها لمواقع التراث العالمي الإنساني، اعترافًا بالقيمة التاريخية والثقافية الفريدة لهذه المدينة. أم الجمال ليست مجرد مدينة أثرية، بل هي قصة حضارية وإنسانية تستحق أن تُروى للأجيال القادمة.
بالإضافة إلى الاعتراف العالمي الذي حظيت به مدينة أم الجمال، تسعى دائرة الآثار العامة جاهدةً لإدراج موقعي محمية العقبة البحرية وقلعة الكرك على قائمة التراث العالمي لليونسكو. وفقًا لما أعلنه مدير الدائرة، فادي بلعاوي، سيتم العمل على تقديم ملف محمية العقبة البحرية في يناير 2025، بالتعاون مع سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة. ويأتي ذلك ضمن خطة شاملة تهدف إلى إدراج قلعة الكرك فور الانتهاء من ملف المحمية.
وفي سياق الجهود المبذولة، تم تسجيل أكثر من 10 مواقع على القائمة التمهيدية لليونسكو، تنتظر دورها في التسجيل الرسمي، ما يعكس التزام دائرة الآثار العامة بالحفاظ على التراث الوطني. وأوضح بلعاوي أن اليونسكو تستغرق حوالي سنتين لتقييم أي موقع بعد تقديم ملفه بالكامل.
ليث فياض العسّاف/ الدستور
التعليقات مغلقة.