طفل الأمس //سعيد ذياب سليم
=
هل لنا الحق في استدعاء الماضي ومحاكمته؟ ليس كل الماضي، ولكن ذاك الذي هو جزء منا؟ ذلك الطفل الذي يسكن أفكارنا ونستمر في قمعه حتى لا يخرج ويهدم ما حققناه؟ معلمنا الذي راقب أعمالنا الغبية مبتسمًا؟ أبوانا اللذان اختارا لنا ما نلبس، ما ندرس، ومن نصادق أو نتزوج؟ أهذا ترف ثقافي أم حاجة سيكولوجية لردم الحفر التي طالما عرقلت سير حياتنا؟
خربشات وجروح على جدار الروح، زرعت فينا الخجل والتردد، أو الثورة والمعصية. أخطاء من كانت؟ نحن الملائكة لينو الطبع في الصغر، قولبتنا أيدي من هم أكبر منا سنا، والظروف!
في رواية “الأرض الطيبة” للكاتبة بيرل باك، يصف الكتاب التقاليد الصينية التي كانت تتبعها بعض العائلات الغنية للحصول على “القدم الذهبية”، بالمحافظة على صغر أقدام الفتيات كرمز للجمال والمكانة الاجتماعية. كانت العملية تتم بربط أقدام الفتيات في سن مبكرة، حيث يتم لف القدم بشكل محكم بأقمشة لمنع نموها بشكل طبيعي. هذه العملية كانت مؤلمة للغاية وتؤدي إلى تشويه القدم وتغيير شكلها، حيث يصبح حجم القدم صغيرا جدا. استمرت هذه العادة التي تعود للقرن العاشر حتى منعتها السلطات الصينية بحزم في سنة 1949.
هل حدث معنا شيء يشبه ذلك؟ هل وُضع قالب حديدي على أدمغتنا فلم نكن نفكر بحرية؟ أو على قلوبنا فلم تدق بشكل طبيعي؟ وربما نظارة سوداء لم نرَ من خلالها الواقع؟
تذكر المصادر طرفة عن قبيلة الكايان (Kayan) في ميانمار وتايلاند، وهي جزء من شعب الكارين. من تقاليدها إطالة أعناق الفتيات عن طريق وضع حلقات معدنية حول أعناقهن منذ سن مبكرة. مع مرور الوقت، تتم إضافة المزيد من الحلقات، مما يؤدي إلى ضغط عظام الكتف والضلع لأسفل، مما يعطي مظهر العنق الطويل، وقد أعطاهن ذلك تسمية “النساء الزرافات”. هذا التقليد يُعتبر واحدا من أكثر التقاليد البصرية إثارة للاهتمام.
ترى، هل رُبِطَت أعناقنا بقيد ما في فترة من فترات حياتنا، فأصبح ذلك عادة لم نعد قادرين على تحطيمها، وعشنا أسرى لها حتى تحولت إلى طقس مقدس؟
عندما خرجت للصلاة يوم الجمعة حاملًا معي كيس النفايات لألقيه في الحاوية، مر بي طفل يندفع راكضا صارخا بأعلى صوته “بابا… بابا!” ظننت أنه طفل ضائع. مشيت في إثره باتجاه المسجد محوقلا مرددا الذكر المأثور حتى دخلت المسجد وجلست في موضعي. رأيته يحوم حول شخص ما، يخاف الاقتراب منه. اقترب منه طفل آخر -يبدو أنه أخوه- محاولا سحبه خارجا لكنه أبى، ملتصقًا بالأرض، مهتزا بصوت نشيجه وتنهداته. فما كان من أبيه إلا أن همّ به وحمله بين يديه خارجا من المسجد في موكب بين حنق ورجاء.
ترى، هل ضربه؟ عنّفه؟ هل كانت هذه المرة الأولى لذلك الطفل أم الأخيرة؟ كيف سيذكرها فيما بعد؟ هل سيؤثر ذلك في تعلقه بالمسجد؟ هل بالغت في توصيف الحدث؟ لا أذكر أن أبي -رحمه الله- أخذني بيده طفلًا إلى المسجد، لكن أذكر أنه اصطحب أخي معه عدة مرات، كنت أحسده على ذلك بصوت أخرس، وما زلت أذكرها تلك المرات.
استعنت بذاكرة صديق الطفولة، سائلا إياه في رسالة نصية عما يخشى ظهوره من ذكريات. فأجاب: “طفولتي”. وعندما طلبت منه أن يفصل ذلك، قال: “ذكريات طفولة لم يتحقق منها أي حلم … بقيت عالقة حتى اليوم، و تراكمت فوقها خيبات كثيرة”
لم أستمر في تحقيقاتي، ربما كان يحلم بدراجة هوائية، أو ساعة سويسرية، أو حذاء رياضي، أو حب فتاة دق لها قلبه العذري ومنعته ظروفه من الاقتراب منها، كما هو حال الكثير منا. ربما لا يزال وجهها الصغير يحدق به في ذاكرته؛ فقد ركضوا معًا، وأطفال الحارة خلف كرته الجديدة. وما يزال يغني لها: “أنا ما تغيرت… أنا متل هالليل الغريب… جايبلك معه السهر والحب وضو القمر… وأغاني الليل والأحلام”، كما غناها “الأمير الصغير”، أو بنسختها الأصلية الفرنسية التي غناها “خوليو إغليسياس” “Je n’ai pas changé”. سواء كان ذلك في سنوات الطفولة أم المراهقة، أو عندما كان شابا في سنوات دراسته الجامعية الأولى، فقد يخلق ذلك الطفل جدارًا من الهلوسات والأحلام يتحصن خلفه. ويعتقد البعض منا أنها ذكريات حدثت فعلًا!
ربما قمعته “لاء” كبيرة من أم أو أب متسلط يعاني من اضطراب التحكم الأبوي المفرط. هذا النمط السلوكي، الذي يتسم بالسيطرة الشديدة والرقابة المتزايدة على حياة الأبناء، دراستهم، و من يقترنون بهم. ويمكن أن يكون له تأثيرات نفسية وسلوكية عميقة عليهم. قد يستيقظ ذلك الطفل في عمر متأخر فيهدم الحصن الذي بناه يومًا، ويطلق قلبه المتمرد كفرس بري يركض بلا سرج ولا لجام، محاولا بناء ثقة بنفسه، لم تكن موجودة وحياة بمرافِق جديدة.
قد يتحمل المعلم اللوم، كما في حالة ذلك الشاب الجامعي الذي عزل نفسه عن الفتيات، منسحبا من أي نشاط يجمعه بهن لإحساسه بعدم الثقة والقلق، منذ أن وجهت إليه زائرة للصف – ربما كانت مشرفة – قولها: “أنت غبي”، فقط لأنه قال لها: “أنت جميلة”. ماذا لوأنها قالت له: “شكرًا على المجاملة، لكن دعنا نركز في الدرس”؟
وهكذا، نجد أن الماضي الذي نحمله في ذاكرتنا، بآلامه وأفراحه، يظل جزءًا لا يتجزأ من هويتنا الحاضرة.
الطفل الذي كنا نرفض مواجهته هو في الحقيقة مفتاح لفهم الكثير من تعقيدات حياتنا الحالية. قد يكون تقييد أقدامنا النفسية قد انتهى منذ زمن، لكن أثره لا يزال يظهر في خطواتنا المترددة. كما أن الحلقات التي طوّقت أعناقنا قد سقطت، لكننا ما زلنا نشعر بثقلها على أرواحنا. وفي النهاية، علينا أن نقرر: هل نستمر في حمل هذا الماضي كعبءٍ يقيدنا حتى يفاجئنا خروج الجني من قمقمه، أم نختار تحريره لنفسح المجال أمام الطفل بداخلنا ليحيا من جديد، أكثر نضجا وحكمة، متصالحًا مع الماضي ومستعدا للمستقبل؟
التعليقات مغلقة.