هالة الشريف التونسية التي تحدت قطعان المستوطنين
مهدي مبارك عبدالله
=
بقلم / مهدي مبارك عبد الله
بتاريخ 15/ 6/2021 نظم مئات من غلاة المستوطنين الاسرائيليين ما يسمى بمسيرة الاعلام في مدينة القدس المحتلة تحت حراسة ما يزيد عن 2000 شرطي ورجل أمن اسرائيلي حيث أصبحت ساحة باب العامود التي شهدت هبات وانتفاضات ومواجهات وسقوط عشرات الشهداء والجرحى في السنوات الاخيرة ثكنة عسكرية لقوات جيش الاحتلال
مسيرة ورقصة الأعلام مناسبة سنوية اسرائيلية يقوم بها مئات المستوطنين المتعصبين يرفعون فيها علم إسرائيل باللونين الأبيض والأزرق وهم يجوبون الشوارع في القدس وباب العامود بحماية جيش الاحتلال وكافة صنوف أجهزة الأمن الإسرائيلية مرددين الهتافات العنصرية والمتطرفة مثل ( الموت للعرب وتوجيه المسبات للنبي محمد صل الله عليه وسلم ) لعنهم الله اينما يقفوا
في خضم هذه الاحداث الاستفزازية استطاعت السيدة هالة الشريف بنت القدس قبل تونس وبعدها بجرأة لا مثيل لها وبدافع شخصي من اقتحام صفوفهم ورفع علم فلسطين بينهم متحديةً كل الهتافات المتعصبة من قبل الآلاف من غلاة المستوطنين المتوحشين وغير عابئة بمصيرها المحتوم بـ ( البطش والركلات والهراوات والاعتقال ) في أفضل الأحوال وعقب ثوانٍ من رفعها العلم الفلسطيني هاجمها أحد جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وسلب منها العلم ثم اعتدى عليها بالضرب واعتقلها ونقلها إلى مركز تحقيق المسكوبية السيئ السمعة بعد ذلك قضت محكمة إسرائيلية بالإفراج المشروط عنها بدفعها كفالة قدرها 2000 شيل ( نحو 600 دولار أمريكي ) بانتظار تقديمها للمحاكمة
لقد تمكنت الشريف وفي ثواني قليلة أن تقلب المشهد رأسا على عقب وأصبح كل من كان يراقب الحدث في باب العامود عبر الفضائيات لا يرى إلا العلم الفلسطيني وهو يرفرف بيد امرأة عربية جريئة وسط صيحات الله وأكبر محولة الغطرسة والارهاب الصهيوني إلى مشهد ضعيف وهش أمام العالم وبما أفرح قلوب ملايين المناضلين والأحرار في كل مكان وقد سبق للشريف أن رفعت العلم الفلسطيني خلال مسيرة المستوطنين عام 2019 وهذه ليست أول مرة تعتقل فيها ولعلها لن تكون الأخيرة حيث تم اعتقالها في نفس العام وصدر بحقها حكم عسكري بأُبعادها لمدة شهر عن القدس المحتلة
هالة الشريف بنت القدس فلسطينية الهوى والهوية وتونسية المولد والجنسية 58 عام زوجة المناضل الراحل ( عثمان أبو غربية ) عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وأحد أبرز قياداتها المقاومة عسكريا وفكريا الذي قدم إلى تونس مع قيادات منظمة التحرير في منتصف الثمانينيات وتوفي عام 2016 أثناء عملية زرع قلب لتواصل زوجته التونسية من بعده مسيرة النضال ( يرفض كثير من الفلسطينيين وصف الشريف بالتونسية ويصرون على إنها فلسطينية اصيلة ومقدسية حرة وأنها فخر لكل فلسطين لأنها رفعت رؤوسنا امام الطغاة المستبدين ) والبعض اعتبرها ( ياسمينة تونس في القدس ) تلك الحرة فلسطينية الانتماء وتونسية الجذور قلبت المعادلة وغيرت المشهد وانتشلت جزءا من كرامة امتنا الضائع حين فعلت ما عجز عن فعله الكثيرون حيث افشلت لوحدها ( مسيرة الاعلام الاسرائيلية ) ونغصت فرحهم واثبتت من وسط الميدان أن ( وجه القدس لن يكون الا فلسطينيا عربيا ) وليس غريبا على شعب فلسطين قوة وجرأة وتحدي نسائه قبل رجاله وتصديهن لقوات الاحتلال الصهيوني وقادته المجرمين حيث كن على الدوام يتصدرن الخط الاول بالدفاع عن المقدسات والارض والشعب كما كانت من قبل الشهيدة دلال المغربي التي رفعت علم فلسطين معلنة ( جمهورية فلسطين العربية على طول الساحل الفلسطيني ) في آذار من العام ١٩٧٨ في عملية الشهيد كمال عدوان
على مدى السنوات الأخيرة حاولت الشريف تجاوز الحواجز العسكرية الصهيونية في كل مرة لتدخل سراً إلى القدس المحتلة وتنزل الميدان وقد بات لافتاً حضورها شبه الدائم في معظم المواجهات الميدانية مع الاحتلال في القدس والضفة الغربية وكذلك في الوقفات المساندة للشهداء والأسرى كما كانت حاضرة لحظة هدم الاحتلال منزل عائلة ( أبو حميد ) في مخيم الأمعري برام الله وكانت من أبرز الشخصيات التي شاركت في خيمة الصمود بالخان الأحمر عام 2018 دفاعا عن الأرض الفلسطينية على مدى أكثر من 100 يوم
في عام 2019 منعها جهاز الشاباك الإسرائيلي ( الأمن الداخلي ) من دخول مدينة القدس عبر حاجز قلنديا وهي في طريقها للمشاركة في نشاط مجتمعي تطوعي لتنظيف مسجد عمر بن الخطاب في البلدة القديمة التي اعتادت زيارتها مرتين وثلاثاً أسبوعياً كما تعرضت للإصابة أكثر من مرة جراء الاعتداء عليها بالضرب من قبل جنود الاحتلال وهي لا تفوت مناسبة وطنية او تظاهرة او اعتصاما ضد الاحتلال في القدس الا وكانت على رأسه
هالة الشريف في جوانحها الانسانية والنضالية هي أكثر من مجرد سيدة تونسية تعيش في فلسطين وتقيم في مدينة رام الله منذ عام 1994 أو حتى أنها كانت زوجة القيادي عثمان أبو غربية بل هي سيدة من طراز خاص وفريد تجاوزت زوجها ودولتها التي نشأت فيها تونس وتحولت إلى سيدة فلسطينية ومقدسية حقيقية تحمل هموم القدس وشعب فلسطين وترفع العلم الفلسطيني وتتفاعل مع المدينة وكأنها ولدت وعاشت فيها ببسالة عظيمة في المواجهة من أجل ( إعلاء الصوت المقدسي واثبات الكيان الفلسطيني ) حيث تلقى على الأرض وتضرب وتبيت في المعتقلات ثم تعود إلى رام الله أقوى عزيمة واكثر اصرار وهي تعيش كسيدة مجتمع واعية وراقية ومتفهة لدورها ورسالتها
الكاميرات التقطت حادثة ( رفع العلم الفلسطيني ) ووثقتها وتم بثها للعالم الذي رأى بأم عينه عنجهية الاحتلال وعنصريته وتطرفه فيما شاهد احرار العالم فيها دليلا على هشاشة هذا الاحتلال الذي ارتعدت فرائسه وجن جنونه من مجرد سيدة لوحت بـ ( علم فلسطيني يتيم ) وقد ضجت مواقع وصفحات التواصل الاجتماعي بهذه الحادثة ووصف الكثير من رواد هذه المواقع الناشطة ابو غربية بأنها بطلة في زمان عزت فيه البطولة ومناضلة عروبية يسري حب القدس وفلسطين في عروقها وقد وهبت نفسها للدفاع عنها كيف لا وهي من تركت ( وطنها تونس وجاءت الى وطنها الثاني فلسطين ) برفقة زوجها الراحل المناضل والقيادي البارز في حركة فتح وفي الثورة الفلسطينية عثمان ابو غربية وهي تعلم جيدا ماذا يجري فيها وفوق ترابها
لقد كان رائعا ان يشاهد العالم علم فلسطين برفرف بين يدي مناضلة عربية في ساحة الشهداء بباب العامود وهو يقاتل اعلام المستوطنين والمجموعات الارهابية ويتحدى ابواقهم المزعجة وهتافاتهم العنصرية ترفعه يدي واحدة من نساء القدس المرابطات والمجاهدات على خطى العظيمات امثال ( خديجة أبو خويص وهنادي الحلواني ومنى الكرد وشروق دويات واسراء جعابيص ) والقائمة طويلة فهنالك اكثر من سبعون امرأة فلسطينية يتحدين دولة الاحتلال وترسانتها العسكرية ويقاومن بالصبر والصلاة والكفاح الة الاحتلال القمعية ليفضحن سياسة التهجير القسري والهدم والطرد والتشريد والتمييز والابعاد والانتهاكات الوحشية لهذه الدولة الهشة الظالمة التي استوحشت كل ادوات قمعها تجاه سيدة فلسطينية تحدت عنصرية وهمجية المحتلين بالوان علم فلسطين المصنوع في قوته من ارادة انثوية حرة
أن يرفع العلم الفلسطيني في القدس يعني ان كل الحياة والسيادة والولادة والعبادة والحرية ملك للمقاوم والمنتفض الفلسطيني المطالب بحقه وارضه وهنا يمكننا القول كفي أن يرفع العلم الفلسطيني في القدس ولا داعي للاجتماعات الدورية والمؤتمرات العقيمة والمحاضرات والندوات المملة اذهبوا الى القدس كما ذهبت هالة الشريف أكثر من مرة وهي تتجاوز الحواجز العسكرية ليس معها قنبلة ولا بندقية بل كل في يدها علم فلسطين وفي قلبها الايمان واليقين ( تصنع به زمنا اخر للقدس لم يكتشفه الاسرائيليون بعد ) وهو قادم لا محالة مهما طال الزمان واستبد الاجرام وعم الطغيان فمنذ وعد بلفور وهبة البراق وحتى انتفاضة الشيخ جراح وباب الرحمة وباب الاسباط وباب العامود والعيسوية كان ( مخاض القدس العسير تحركه ) دائما اياد نسائية فلسطينية جبارة تدفع بالرجال الى الفداء والتضحية والموت من اجل تحرير الارض والانسان ولكل منهن قصة صمود وتضحيات سطرها التاريخ بأروع صوره وفصوله
منذ القدم اجتمع ابنا الشعب والفرقاء السياسيون في تونس حول موقف موحد وهو دعم الفلسطينيين ضد العدوان الإسرائيلي والتنديد بتصاعد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة والقدس والضفة الغربية والأراضي المحتلة وقد تمكنت القضية الفلسطينية من توحيدهم في مرات عديدة كأحزاب سياسية ومنظمات نقابية ومدنية وقد ظهر ذلك عبر إصدارهم العديد من البيانات وتنظيم التظاهرات والمسيرات المساندة لأهل فلسطين وتأكيدهم الثابت على أن القضية الفلسطينية تسمو على كل الخلافات السياسية والأوضاع باعتبار أنها قضية مركزية إنسانية قومية عربية ساندتها تونس بالدم والمال على مر التاريخ
mahdimubarak@gmail.com