سجناء الطفولة// سعيد ذياب سليم
–
نشأتُ في طفولة مدللة، حيث كانت رغباتي تُلبى دون عناء، وكنت أعيش في وهم السيطرة على كل شيء من حولي. لم أكن أدرك أن الحياة تحمل تغييرات قاسية، حتى بدأت الظروف المادية تتدهور وتراجع الاستقرار الذي اعتدت عليه. ومع مرور الوقت، وجدت نفسي شابا يصطدم بحائط الواقع، غير قادر على التأقلم مع التغييرات ولا فهم سبب النفور الذي شعرت به من الآخرين، حيث بدأت أسمع من حولي وصفهم لي بالنرجسي.
حاولت مرارا فرض إرادتي على الناس والحياة، لكنني اكتشفت مع الوقت خواءً داخليا، لا أملك رؤية ولا قدرة على التكيف. أدركت متأخرا أنني أدفع ثمن طفولتي غير المتوازنة، وأن تأثير تلك السنوات الأولى لا يزال يرافقني، يشكل شخصيتي ويؤثر على طريقة تعاملي مع نفسي والآخرين.
من أجل أن ينشأ الطفل على نحو سليم ومتوازن، يجب أن ينشأ في بيئة خالية من العنف ، مشبعة بالحب والدعم الأسري. بذلك يتمكن الطفل من النمو دون أن يبقى أسيرا لذكريات طفولته.
يحمل لنا تاريخنا الشخصي حقيقتنا، التي تكشفها معاناتنا ومخاوفنا. إذا لم نواجه هذه الجراح النفسية العالقة داخلنا، فإننا نخاطر بتكرار تلك الأنماط السلوكية على أطفالنا. وكما توضح “نظرية الأنماط المتكررة” في علم النفس الحديث، تعاملنا مع أبنائنا غالبا ما يعكس الجوانب الخفية في نفوسنا وتجاربنا غير المعالجة.
قد تكون مررت في طفولتك بتجارب قاسية، سواء من خلال التعرض للعنف أو مواجهة الفقر والإهمال، وهي تجارب قد تترك أثرا على شخصيتك. لذا، من الضروري أن نتحلى بالوعي حتى لا نعيد دون قصد تلك التجارب الصعبة على أبنائنا اليوم. وهذا ما تؤكده “أليس ميلر” في كتابها “دراما الطفل الموهوب”، حيث تشير إلى أن الأطفال لا يولدون وحوشا، بل تصنعهم الظروف التي يعيشونها. القسوة أو الإهمال يمكن أن تقتل إنسانيتهم، بينما الرعاية تعزز إحساسهم بالمسؤولية والذات.
ومع ذلك، عندما تُفرض على الطفل تجارب قاسية أو متطلبات فوق طاقته، فإن الصدمة النفسية الناجمة عن هذه المعاملة قد تدفعه لتطوير “شخصية زائفة”، هذه “الشخصية الزائفة” لا تُعد مجرد وسيلة مؤقتة، بل قد تصبح نمطا مستمرا في حياة الشخص.
الأطفال الذين يكبتون مشاعرهم الحقيقية ويتكيفون مع توقعات آبائهم قد يعانون من مشاكل هوية واضطرابات نفسية لاحقا، مثل الاكتئاب أو الشعور بالعزلة.
هذا القمع للمشاعر غالبا ما لا يُفهم من قبل المجتمع، الذي قد يعزز بدوره توقعات غير واقعية من الطفل الموهوب، مما يزيد من انفصاله عن ذاته الحقيقية. لذلك، يكون من الضروري أن نعي أهمية الاعتراف بمشاعر الطفل وتمكينه من التعبير عن ذاته، حتى لا ينغلق في دوامة الصمت النفسي، هذه الدوامة النفسية تجعل الشخص يبتعد عن ذاته الحقيقية، مما قد يؤدي إلى تطور اضطرابات نفسية، كالاكتئاب أو اضطراب الهوية.
وعلى نفس المنوال، نرى في شخصية “عمر”، في “رواية السادس أحمر” لأحمد خيري العمري، كيف أدى عدم مواجهة الماضي المؤلم إلى تعقيدات نفسية استمرت حتى مرحلة البلوغ. “عمر”، أحد أبطال الرواية، نشأ تحت وطأة ضغوط أسرية خانقة وتوقعات تفوق قدراته، مما ترك فيه جراحا لم تلتئم. هذه التجارب القاسية جعلت منه شخصا عاجزا عن التواصل مع ذاته ومع الآخرين بشكل صحي. وحينما يكبر، يستمر عمر في حمل عبء ماضيه، وحينما يُدعى للانضمام إلى مجموعة تضم أصدقاء طفولته، يجد نفسه مجبرا على مواجهة تلك الذكريات المؤلمة، يدرك أن الجراح النفسية التي عانى منها في صغره لا تزال تنزف بصمت، مما يشكل ملامح حياته في البلوغ. الرواية تكشف بوضوح كيف أن الطفولة القاسية تترك أثرا طويل الأمد على النفس، وتُظهر كيف أن مواجهة هذا الماضي المؤلم قد تكون المفتاح لتحررنا من أسر ذكرياتنا.
في حالات أخرى، يمكن أن تؤدي التربية غير الواعية إلى آثار نفسية عميقة، مثل اضطراب الشخصية النرجسية، هذا الاضطراب سمي نسبة إلى شخصية “نرسيسوس” في الأسطورة اليونانية، التي تروي كيف أنه وقع في حب انعكاس صورته، مما يعكس الأنانية البشرية. الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب يتبعون نمط حياة أناني يضع احتياجاتهم فوق الآخرين، مما يخفي مشاعر نقص أو ضعف داخلي. علماء النفس يعتبرون ذلك اضطرابا نفسيا قد يصل إلى مستوى المرض.
عندما يُرضي الأطفال رغبات والديهم الواعية أو غير الواعية، يُعتبرون “جيدين”، لكن عند التعبير عن رغباتهم الشخصية التي تتعارض مع تلك الرغبات، يُتهمون بالأنانية. توضح ” أليس ميلر” أن الطفل الموهوب، بحساسيته الفائقة لاحتياجات والديه، غالبا ما يخفي ذاته الحقيقية ويتكيف مع توقعاتهم، هذه الضغوط النفسية قد تترك آثارا عميقة في نفس الطفل، مما قد يؤدي لاحقا إلى مشاكل نفسية خطيرة، مثل اضطراب الشخصية النرجسية. الشخص الذي يبني “شخصية زائفة” قد يلجأ إلى تعزيز شعور زائف بالعظمة لتغطية آلامه الداخلية، وهو ما نراه في اضطرابات مثل اضطراب الشخصية النرجسية، حيث يشعر المصاب بأهمية مفرطة لنفسه رغم مشاعر النقص العميقة التي قد يعاني منها.
من أمثلة هذا الاضطراب، شخصية “روديون راسكولنيكوف”، بطل رواية “الجريمة والعقاب” لفيودور دوستويفسكي، الذي يُعتبر مثالًا بارزا لشخصية تعاني من اضطراب الشخصية النرجسية. يؤمن “راسكولنيكوف” بأنه شخص مميز، مما يجعله يعتقد أن له الحق في تجاوز القوانين الأخلاقية. يبرر جريمته بقتل المرابية “أليونا إيفانوفنا” ولكنه بعد ذلك، يواجه صراعا داخليًا عميقا، نتيجة مشاعر الذنب والانهيار النفسي.
يولد الطفل مرتبطا بأمه، ولكن إذا كانت الأم تعاني من اضطراب نرجسي، يتعلم الطفل إخفاء مشاعره الحقيقية ليُرضي احتياجاتها. في الكبر، قد تظهر لديه مشاعر الكآبة والعظمة كآليات دفاعية لتعويض ما يفتقده من حب وأمان. الاكتئاب يظهر كنتيجة لعدم الحصول على الحب والتقدير الكافيين، بينما يعمل شعور العظمة كوسيلة لتعويض مشاعر النقص والخوف من عدم الكفاءة.
في النهاية، يتضح أن التربية الواعية والداعمة لا تحمي الطفل من هذه الآثار النفسية السلبية فحسب، بل تمنحه فرصة للنمو كفرد مستقل قادر على التعبير عن ذاته الحقيقية بثقة.
لمواجهة الذات الحقيقية المخفية، يجب على الأفراد مواجهة الجروح العاطفية من طفولتهم، واستكشاف المشاعر المكبوتة والتعبير عنها. بمساعدة معالج نفسي متعاطف، يمكن معالجة هذه المشاعر واستعادة الهوية الحقيقية.
سعيد ذياب سليم
التعليقات مغلقة.