الأم و الوحش // سعيد ذياب سليم
تحت جلد الإنسان يكمن جانب مظلم، قد يظهر فجأة، وهو جانب لا تستطيع الإنسانية التحكم به. تناولت العديد من الروايات الأدبية هذا الجانب من الطبيعة البشرية، بدءاً من “فرانكشتاين” لـ “ماري شيلي” وصولاً إلى “الطفل الخامس” لـ “دوريس ليسينج”.
في لندن الستينات، كان “هارييت” و”ديفيد” يبتعدان عن التحرر والفوضى التي ميّزت جيلهما، يعيشان بانسجام في عالمهما الخاص، رافضين المغامرات العاطفية العابرة. في إحدى الحفلات، جمعتهما نظرات مليئة بالتفاهم والانفصال عن المحيط، مما وحّد رؤيتهما لبناء عائلة تقليدية، شعارها السعادة والحب.
اشتروا بيتًا قديمًا كبيرًا، رغم صعوبة الظروف المالية، وساعدتهما عائلة “ديفيد” في تحمل الرهن العقاري. لكن مع كل ولادة جديدة، كانت الضغوط تتزايد. “لوك” ثم “هيلين” تبعتهما “جين” و”بول”، وكلما زاد عدد الأطفال، ظهرت علامات الإنهاك على “هارييت”. بدأت الشكوك تتسلل، وزادت الخلافات بينها وبين والدتها “دوروثي” حول قصر الفترات بين الولادات.
تعرضت “هارييت” لصدمة عندما أنجبت أختها “سارة” طفلتها “آمي” التي كانت تعاني من متلازمة داون. أثار هذا الحدث قلقًا متزايدًا في نفسها.
عندما حملت بطفلها الخامس، كانت حركات الجنين عنيفة وغير طبيعية، مما أثار في نفسها أفكارًا مظلمة. في ليالٍ كثيرة، كانت تستيقظ فزعة من نومها، تشعر بأن الجنين في داخلها كأنه وحش يريد أن يمزق بطنها للخروج. كانت تتحدث لنفسها في الظلام، وكان القلق يتزايد في وجه “ديفيد” الذي حاول دعمها رغم تزايد مخاوفها.
عندما جاءت لحظة الولادة، كان الطفل مختلفًا. حجمه الكبير ولون بشرته الغريب كانا كافيين ليثيرا الذعر في قلب “هارييت”. لم ترَ فيه رضيعًا، بل وحشًا صغيرًا، نعتته بالغول، كان “بن” يرضع بشراهة، يعض بعنف، مما جعلها تتألم في صمت.
مع مرور الوقت، أصبح “بن” مصدر قلق متزايد. قوته غير طبيعية، وصراخه أشبه بزئير حيوان بري. كانت “هارييت” تتساءل إن كان قرارها بالاستمرار في إنجاب الأطفال قد جرّها نحو مصير لم تكن مستعدة له. تساءلت عن مسؤوليتها في إنجاب هذا “الوحش” أو إن كان السبب هو الماضي الجيني للعائلة.
حاولت “هارييت” دمج “بن” بين إخوته، لكن وجوده أثار القلق بينهم. في إجازة الصيف، حاولت العائلة الاقتراب منه، لكنهم تراجعوا بعد أن وصفه أحدهم بالجني. كان “بول” الوحيد الذي حاول لمسه، لكنه أصيب عندما أمسك “بن” بذراعه بعنف. منذ ذلك الحين، تعلم الأطفال تجنبه.
لم يحبو “بن”، بل وقف فجأة وزأر ثم سار مترنحًا بين حطام ألعابه. في أحد الأيام، وجدته “هارييت” على حافة نافذة، فسارعت لإنقاذه، واضطرت العائلة لوضع قضبان حماية على النافذة.
خلال إحدى الإجازات، مات كلب بطريقة غامضة، مما أثار الشك حول “بن”. بعد فترة، مات قط بنفس الطريقة، وتناقص زوار البيت، وتركَت “أليس” عملها التي كانت تساعد في أعمال البيت.
شعرت “هارييت” أن “ديفيد” والآخرين يحملونها مسؤولية إنجاب هذا الطفل الغريب. تساءلت بمرارة إن كانوا يعاملونها كما عوملت النساء اللواتي أنجبن كائنات غريبة في الماضي.
بعد حادثة هروب “بن” إلى الشوارع، تم إغلاق غرفته بقضبان حديدية.
اقترحت “دوروثي” أن تبقى مع “بن” لمدة أسبوع بينما تسافر العائلة في إجازة إلى فرنسا. شعرت “هارييت” أن عائلتها استعادت توازنها، وعاشوا جميعًا فترة من السعادة والهدوء. لكن عند عودتهم، لاحظوا جروحًا على ذراع “دوروثي” ووجهها. طلبت منهم أن يصغوا إليها: “يجب عليكم مواجهة الأمر ووضعه في مصحة ما.” أجابت “هارييت”: “لكنه طبيعي، هذا ما قاله الطبيب.” إلا أن “دوروثي” ردت بحزم: “ربما هو طبيعي بالنسبة له، لكنه ليس طبيعيًا بالنسبة لنا.
تتضح النظرات المتباينة تجاه بن مقارنة ببقية الأطفال، خاصةً “آمي” التي تعاني من متلازمة داون. على الرغم من اختلاف “آمي”، إلا أن العائلة تتقبلها بحنان وحرص، محيطين إياها برعاية خاصة وحماية، بينما يبقى “بن” منبوذًا وغريبًا في نظرهم. ينظر إليه والداه، “ديفيد” و “هارييت”، وكأنه عبء يهدد استقرار الأسرة، مما يدفعهما وأفراد العائلة الكبيرة إلى الاتفاق على وضعه في مصحة، لاعتقادهم أن وجوده يُعرض العائلة للخطر. في لحظة مواجهة حاسمة، يوضح لوك لإخوته أن بن سيأخذ بعيدًا لأنه “ليس منا”، مشيرًا بذلك إلى الانفصال العاطفي التام عن “بن”.
عزيزي القارئ تشير الحكاية إلى المواجهة المستمرة حول “الطبيعي” و”غير الطبيعي” في سياق عائلي ومجتمعي، وهو ما يعكس بدوره السؤال الأكبر حول تقبل الآخر المختلف.
عادت الأسرة بغياب “بن” إلى وضع طبيعي، شعر الأطفال بالسعادة والاستقرار، فقد غابت عنهم أسباب الرعب، صرت تسمع ضحكات الأطفال وحركتهم التي لا تحمل هما.
لم يغادر “هارييت” الندم ولم تكف عن لوم نفسها، فقررت أن تذهب لزيارته رغم رفض “ديفيد” وغضبه.
بعد رحلة طويلة تحت جو رمادي ماطر، وصلت المصحة، وبدت بناء أسودا كئيبا تنقبض لرؤياه النفس، دخلته ورأت فيه على الأسرة كائنات غريبة الأشكال ، أعضاؤها غير متناسقة، تنظر في الفراغ، وسط روائح المعقمات، وفي جناح “بن” كانت روائح البراز و البول تملأ المكان، جادلت المشرفين على الصالة حتى أعادت “بن” إلى البيت.
وسط استنكار “ديفيد” و ذهول الأطفال، أعادت “بن” إلى حجرته.
لماذا غاب عن أفراد الأسرة، أن الإنسان عندما خرج منتصبا من الغابة، حمل معه بعض صفات أسلافه؟ وأن كلا منا يحمل صندوقا أشبه بصدوق “بالدورا” ، فلا غرابة أن أسدلت ستائر النوافذ في بعض البيوت لعلها تخفي أسرارها.
بدأ “بن” يحاول الاندماج في محيطهم الاجتماعي. جلس معهم على المائدة، وراقب التلفاز، لكن عينه كانت تحمل نظرة اتهام تجاه والده. كانت أمه تهدده بإعادته إلى المصحة إن أخطأ، لكنه بقي يتأقلم، إلى أن التقى بـ”جون” وزمرته.
رأى “بن” فيهم مجتمعًا جديدًا يناسبه. تبعهم، وعاش معهم حياة الشوارع والمقاهي. كانت قسوته وقوتهم تعكس غرائزه البدائية، لكنهم، على الرغم من سخريتهم منه، قدموا له نوعًا من الرفقة.
التحق “بن” بالمدرسة المحلية، حيث كانت والدته تأخذه صباحًا، ويعيده “جون” بعد الدوام. لكن الثمن كان فادحًا: تحطم حلم “هارييت” وتفرقت أسرتها. “لوك” و “هلين” في مدارس داخلية، “جين” مع جدتها، و”بول” تحت إشراف طبيب نفسي. وكانت الفجوة بينها وبين “ديفيد” تتسع.
شعرت “هارييت” بالذنب دائمًا، تسأل هل كان “بن” لعنة أم عقابًا إلهيًا؟
كان في نظر الأطباء طفلا حول المعدلات الطبيعية و اتهموها أنها لم تكن تحبه. رأت فيه معلمته طفلا بطيء التعلم رغم ما يبذل من جهد.
فيما بعد، وجد “بن” نفسه وحيدًا عندما غادر “جون” و أصدقاؤه المدينة، متجولًا في الشوارع، ومنعزلًا في ظلام العلية.
اجتمع حوله في المدرسة الثانوية زمرة من زملائه، يأتي بهم إلى البيت، يغزون المطبخ ويلتهمون ما يجدونه من طعام. رأتهم “هارييت” أغبياء، لا يهتمون بالآداب الاجتماعية، يجيبون بوقاحة، لكنهم يلتفون حول “بن”. هل سيطر عليهم كما سيطر على نوبات غضبه؟ هل أصبح قائد هذه العصابة؟ بالنسبة لـ”هارييت”، ظل “بن” أشبه بإنسان الكهف، بقايا إنسان “النياندرثال”.
يغيبون لأيام ثم يعودون بالطعام، وجيوبهم ممتلئة بالنقود. تتوالى الأخبار عن سرقات واعتداءات، تتساءل “هارييت” إن كان لـ”بن” دور في ذلك، وتتأمل مستقبله الغامض.
عزم “ديفيد” و “هارييت” اللذين يبدوان أكبر من عمريهما الآن على بيع البيت، إذ لم يبقَ يسكنه سوى شظايا حلمها الذي انهار بوجود “بن” طفلها المختلف.
هنا انتهت رواية “الطفل الخامس” التي نشرت سنة 1988 لكن الكاتبة عادت لتروي لنا ماذا حدث لـ”بن” في روايتها التي نشرت سنة2000 “بن في العالم” وتلك حكاية أخرى.
التعليقات مغلقة.