محاضرة لزيدان كفافي عن الآثار في منطقة جنوبي بلاد الشام
ألقى عالم الآثار الدكتور زيدان كفافي، الرئيس السابق لجامعة اليرموك، محاضرة بعنوان: “الآثار والدين والسياسة: جنوبي بلاد الشام نموذجاً”، أدارها أستاذ الفلسفة الدكتور أحمد ماضي، وذلك في مقر رابطة الكتاب الأردنيين.
وأوضح الدكتور زيدان كفافي أن المحاضرة تركز على منطقة جنوبي بلاد الشام (الأردن وفلسطين)، لأن تراثها يخضع منذ القرن التاسع عشر لاختبار هويتها، وتجييره لغير أهله، عبر تفسير الاكتشافات الأثرية وفقًا لما ورد في التوراة من معلومات. كما استعرض المحاضر تقسيمات التوراتيين للتاريخ اليهودي، وإنشاء المراكز والمدارس الأثرية الغربية، وأهم المواقع الأثرية التي نقبوا فيها في فلسطين. وتطرق أيضًا إلى آراء بعض الباحثين الذين انتقدوا المنهج البحثي التوراتي.
وقال كفافي “يجب أن نعيش في عصرنا وفقًا لما تقتضيه التطورات العلمية والحضارية، دون الوقوف جامدين والتغني بالماضي المجيد. ولكن، لا بد من الاستفادة من دفء تراثنا وأصالته، وألا نتخلى عنه. وهذا يعني بالضرورة المزاوجة بين التراث والعلم والمعرفة المعاصرة، وتجنب الصراع بين العقل والروح. فلا يجوز أن نغلق أنفسنا على ماضينا، بل يجب أن نفتح آفاقنا لكل علم ومعرفة جديدة”.
وأضاف “أن التراث في جنوبي بلاد الشام -فلسطين والأردن- يخضع منذ نهاية القرن التاسع عشر لاختبار هويته، وتم توظيفه لصالح جهات غير أهله، اعتمادًا على ما ورد من معلومات في الأسفار التوراتية ومحاولة إثبات صحتها بالآثار المكتشفة في هذه المنطقة لتحقيق أهداف سياسية، فوجدنا أنه من واجبنا تسليط الضوء على هذا الموضوع. فالموروث الأثري يعد وثيقة الهوية السياسية والتراثية لأي أمة من الأمم. ولا شك أن موروثنا العربي الأثري بمجمله، غني بالمخلفات الأثرية على اختلاف أنواعها وتنوعها، وهي تتعدد بين المنقول والمكتوب والمخطوط”.
أما عن “التراث والتوراة في جنوبي بلاد الشام”، فقد أشار المحاضر إلى أن الاكتشافات الأثرية وبقايا الهياكل العظمية البشرية دلت على أن الإنسان عاش فوق أرض جنوبي بلاد الشام قبل حوالي مليون ونصف المليون سنة، (ودلت الاكتشافات الأثرية الحديثة أنها تعود لحوالي مليونين ونصف المليون سنة). وأضاف أن المخلفات التي تركها تنسب لمجموعات بشرية، وليس لأعراق أو أجناس محددة، وذلك بسبب غياب المصادر المكتوبة المعاصرة لها.
ورأى كفافي أن الباحثين استطاعوا، بعد فك رموز الكتابات الهيروغليفية الفرعونية والمسمارية الرافدية المؤرخة لأكثر من خمسة آلاف عام، وما تلاها من كتابات سامية أخرى، أن يعطوا الأثر المكتشف هوية المكان الذي وجد فيه.
ثم تحدث المحاضر عن “التوراة والآثار في جنوبي بلاد الشام”، قائلا “تعرضت فلسطين لعدد كبير من المسوحات والحفريات الأثرية ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر، على يد عدد من الباحثين الغربيين، وخاصة التوراتيين منهم، بهدف الربط بين الحدث التوراتي والمكان الفلسطيني. فجاؤوا إلى فلسطين حاملين المعول بيد والتوراة بيد أخرى. بدأ المنهج التوراتي التقليدي مع إنشاء المدارس والجمعيات الأثرية الغربية، بهدف تنظيم العمل الأثري في فلسطين ابتداءً من العام 1860م وما بعده”.
ويقوم هذا المنهج على تفسير الآثار المكتشفة من خلال القصص المذكورة في التوراة، لذا كان لا بد من التنقيب الأثري في مواقع تم ذكرها في النصوص التوراتية، مثل: “القدس، وأريحا، وتل المتسلم، (محدو)، وتل وقاص (حازور)، وتل الدوير (لاخيش)، وتل (عي)، وتل بيت مرسم”.
وأضاف كفافي أنه تم التركيز في هذه المواقع، وبشكل خاص، على الطبقات المؤرخة للمرحلة الانتقالية بين نهاية العصور البرونزية وبداية الحديدية (حوالي 1300 – 1100 قبل الميلاد)، التي يعتقد أنها دُمرت على يد الإسرائيليين أثناء احتلالهم لها من أهلها الكنعانيين. ويزعم ذلك المدرسة الأميركية التي أسسها “وليم فوكسويل أولبرايت”.
ومن المعلوم أن أولبرايت، في دراسته وتأريخه لمكتشفات حفرياته في موقع (تل بيت مرسم)، الواقع في محافظة الخليل، اعتمد على الاختلاف في أشكال الأواني الفخارية وتطور صناعتها، وربطها مع الطبقات التي وجدت فيها (1938، Albright) وشاع استخدام منهجه هذا بين التوراتيين الأميركيين وبعض الأوروبيين.
كما تحدث الدكتور زيدان كفافي عن “الصراع بين أتباع الديانات السماوية على الأرض المقدسة/ الآثار في خدمة السياسة”، قائلاً: “بعد انتشار الديانتين اليهودية والمسيحية في العالم الغربي، أصبح هناك صراع للسيطرة على منطقة جنوبي بلاد الشام، الأرض المقدسة، بين أهلها أصحاب الحضارة الشرقية (من جميع الديانات) من جهة، وبين الحضارة الغربية من جهة أخرى. إذ لم يرق لأوروبا المسيحية أن تكون الأراضي المقدسة، وخاصة مدينة القدس، تحت سيطرة المسلمين، فقامت بين العامين 1096 – 1291م بمجموعة من الحملات والحروب التي سميت بـ”الحروب الصليبية”، لأنها كانت ذات طابع ديني”.
ادعى القائمون على هذه الحروب أنها جاءت استجابة لدعوة من الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية الشرقية لمساعدتهم في وقف زحف المسلمين السلاجقة في بلاد الأناضول، لكنها كانت في الحقيقة للسيطرة على الأراضي المقدسة ولأسباب اقتصادية أخرى.
انتهت هذه الحروب بهزيمة الصليبيين في معركة حطين على يد الملك الأيوبي المسلم صلاح الدين. وبعد أن حكم الأيوبيون جنوبي بلاد الشام، تبعهم المماليك ثم العثمانيون الذين سيطروا على المنطقة بعد انتصارهم على المماليك في معركة مرج (دابق) قرب مدينة حلب التي حدثت في شهر آب (أغسطس) من العام 1516م.
وخلص المحاضر إلى أن العالم الغربي لم يقطع بعد انتهاء الحروب الصليبية صلاته مع العالم الشرقي، إذ واصل عدد من الرحالة والمستكشفين زياراتهم للمنطقة، خاصة الأراضي المقدسة، وتقديم التقارير حولها للمؤسسات والهيئات الغربية التي مولت رحلاتهم. ولم يكن هذا ليحدث لولا اهتمام العالم الغربي بتثبيت المعلومات الواردة في كتاب التوراة، المكون من العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل)، وكأنه يأتي في إطار إحياء عهد الحروب الصليبية.