حرب غزة تمهيد لمواجهة مصيرية لم تكشف فصولها بعد


المحامي الدكتور هيثم عريفج

==

بعد أكثر من أربعة عشر شهرًا من العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني في غزة، وبالرغم من الدمار الهائل الذي طال البنية التحتية والحياة اليومية، وبالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون من شهداء وجرحى ومعتقلين، فإن من يعتقد أن هذه الحرب قد انتهى فصلها الأخير فهو واهم. الحرب لم تتوقف، لا في ذهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولا في استراتيجيات قادته العسكريين، ولا حتى على أرض الواقع. بل إنها تستمر بوتيرة قد تبدو هادئة أحيانًا، لكنها في الحقيقة تمهد لمواجهة أشد ضراوة وأكثر عنفًا، مدعومة بدعم سياسي ومالي وعسكري غير مسبوق من الإدارة الأمريكية الحالية.
ما شهدناه حتى الآن لم يكن سوى مقدمة لمخطط أكبر وأكثر شمولية، تُنسج خيوطه بعناية فائقة، وتُنفَّذ حلقاته ببطء ولكن بثبات. هذا المخطط لا يهدف فقط إلى إخضاع غزة أو إضعافها، بل يسعى إلى إعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية والسياسية لفلسطين التاريخية، عبر تفريغها من سكانها الأصليين واستبدالهم بكتل بشرية يتم جلبها من مناطق مختلفة. هذا المشروع الاستعماري الجديد لا يقتصر على غزة أو الضفة الغربية، بل يمتد ليشمل ترتيب أوضاع المنطقة بأكملها، من خلال مد جسور اقتصادية وأمنية بين الكيان الصهيوني ودول المنطقة، وإعادة تشكيل التحالفات السياسية لضمان استمرارية الهيمنة الإسرائيلية.
في هذا السياق، سيصبح مصطلح “معاداة السامية” أداةً سياسيةً تُستخدم بكل عنفوان لقمع أي صوت ينتقد الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي أو يحاول محاسبة قادتها على جرائمهم. هذا المصطلح، الذي تم تحريفه لخدمة أغراض سياسية، سيُستخدم كدرع يحمي الكيان من أي مساءلة دولية، ويُسكت أي محاولة لفضح جرائم الحرب التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني.
استمرار الحصار الخانق على غزة، واستخدام المساعدات الإنسانية كسلاح للتجويع والضغط على المدنيين، ليس سوى دليل قاطع على أن الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد. هذا الأسلوب من العقاب الجماعي، الذي ينتهك أبسط مبادئ القانون الدولي الإنساني، يعكس نية الاحتلال في إطالة أمد المعاناة وإضعاف أي قدرة على الصمود أو المقاومة. إنه جزء من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى إخضاع الشعب الفلسطيني وإجباره على القبول بواقع جديد يُفرض عليه بقوة السلاح.
في الضفة الغربية، تتجلى ملامح هذا المخطط بشكل أكثر وضوحًا. فالتصعيد الممنهج في سياسات الاحتلال، بدءًا من الاستيطان المتسارع ومرورًا بالاعتقالات التعسفية وانتهاءً بالعمليات العسكرية المباشرة، يشير إلى أننا أمام حرب جديدة لا تقل خطورة عن تلك التي تشهدها غزة. هذه الحرب لا تهدف فقط إلى قمع الفلسطينيين، بل تسعى إلى فرض وقائع جديدة على الأرض، تجعل من أي حل سياسي عادل قائم على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني أمرًا مستحيل التحقيق.
ما يعزز هذا النهج العدواني هو الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، والذي تجسد بشكل واضح في القرارات الأخيرة للإدارة الأمريكية، بقيادة الرئيس الحالي دونالد ترامب. فالإفراج عن مساعدات مالية ضخمة بلغت قيمتها أربعة مليارات دولار لدعم الاحتلال ليس مجرد دعم اقتصادي، بل هو إشارة سياسية واضحة على استمرار الغطاء الأمريكي لكل الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين. هذا الدعم الأمريكي ليس جديدًا، لكنه يتخذ في المرحلة الحالية طابعًا أكثر خطورة، حيث يتم توظيفه لخدمة أجندة توسعية تهدد ليس فقط القضية الفلسطينية، بل الاستقرار في المنطقة بأسرها.
إن ما يحدث اليوم هو تحضير لمواجهات أكبر، ومعركة مصيرية لم تتكشف كل فصولها بعد. فالمشروع الصهيوني، المدعوم بأذرع إقليمية ودولية، يسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق رؤيته، مستغلًا حالة الانقسام العربي والضعف الدولي في مواجهة جرائمه. وفي هذا السياق، فإن الدول العربية والمجتمع الدولي مطالبان بالتحرك العاجل والفعال لمواجهة هذه السياسات التي تهدد ليس فقط القضية الفلسطينية، بل مستقبل المنطقة بأكملها.
إن الصمت الدولي على ما يحدث ، لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة وزيادة احتمالات انفجار الوضع بشكل يصعب السيطرة عليه. لذلك، فإن الوقت قد حان لمواجهة هذه السياسات بكل حزم، ودعم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحرية والعدالة، قبل أن تتحول الحرب القادمة إلى كارثة إنسانية لا يمكن إصلاحها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.