المولد النبوي نقطة تحول في تاريخ البشرية
زفت أرض مكة في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، خبرا طار في قبائل العرب كما لم تعرف بطحاؤهم قبله أو بعده خبرا، فقلب موازين القوى داخل الجزيرة الغارقة آنذاك في الاحتراب القبلي، وكان انبلاجا يؤذن بتغير دراماتيكي عصف بالعالم ودفع بالعرب إلى سدة قيادته.
ومع إطلالة يوم غد الثلاثاء، الثاني عشر من ربيع الأول، يقف العالم بمهابة في رحاب الذكرى السنوية لمولد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، مستعيدا عظمة المناسبة وصاحبها، الذي ملأ الدنيا نورا وهدى، حتى دانت لدعوته العظيمة، الأمم شرقا وغربا.
فبمولد سيد الأنام وخاتم الرسل والنبيين، فازت أرض العرب بتحقق سعيها الحثيث للقطع مع الماضي بصراعاته البينية، وتبعيتهم آنئذ لقوى الصراع الدولي السائد.
سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد الكريم الخصاونة قال لوكالة الأنباء الأردنية (بترا)، إن من أعظم النعم التي أنعم الله تعالى بها على البشرية أن بعث في العرب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من أنفسهم عرفوا أمره وخبروا صدقه وأمانه، فكان مولده مولد نور لأمة عاشت ردحا من الزمن على هامش الحضارة الإنسانية، تتخبطها ظلمات الجاهلية العمياء.
وأشار إلى أنه حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه قال: “أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام”.
ولفت إلى أن الروايات توالت عن فرح الدنيا بأكملها بمولد الهادي صلى الله عليه وسلم، فقد روي عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف أنها حضرت ولادته كما حضرتها فاطمة بنت عبد الله وهي أم عثمان بن أبي العاص الثقفي قالت: “شهدت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعته أمه آمنة بنت وهب، وكان ذلك ليلا فما من شيء أنظر إليه في البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى أني لأقول ليقعن علي”.
وبين أن هذه الولادة المباركة والاستقبال الحافل بالفرح والسرور من الكون كله، إنما هي بشائر خير وسعادة إلى الإنسانية، وعلامات تحول من الضلالة إلى الهداية ومن الغواية إلى الرشد، لقوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
رئيس قسم أصول الدين في جامعة اليرموك، الدكتور محمد عودة الحوري، أشار إلى أن ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعد نقطة تحول في تاريخ البشرية جمعاء؛ وهو إيذان بإرسال نور النبوة وضياء الرسالة الإلهية، فقد قال تعالى {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}؛ فالنور هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال المفسرون؛ والكتاب المبين هو القرآن الكريم.
وبين أن ذكرى المولد اليوم فرصة سانحة للتعريف به صلى الله عليه وآله وسلم، وبسيرته التي تفيض بمعاني الإنسانية، وبرسالته العالمية، وبمنجزاته الحضارية، كما هي ضرورة لتصحيح صورة مشوهة رسمت في ظل سيطرة (الإسلاموفوبيا) على من جهله عليه الصلاة والسلام، وجهل النور الذي جاء به.
وأوضح الحوري أن إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، هو تذكير بالمنهج الرباني، الذي فيه صلاح الإنسانية وسعادتها، وهو إحياء وإعلاء للأخلاق والقيم والمبادئ التي تنسجم مع الفطرة البشرية.
أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية، الدكتور علاء الدين عدوي، دعا في هذه المناسبة العطرة إلى استذكار الصفحات العظيمة من سيرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، فمولده هو مولد أمة الإسلام، وهو النبي الذي اختاره الله برحمته وحكمته، فبعثه رحمة للعالمين، الذي جاء بالوحي من عند الله بشيرا ونذيرا، ومتمما لمكارم الأخلاق، وداعيا إلى التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة. وأشار إلى أن هذه المناسبة هي تأكيد لأهمية غرس محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب الناس، والتذكير بسنته وحديثه وسيرته ودعوته إلى الله.
تبعا لذلك، أوضح عضو رابطة علماء الأردن، والعضو المؤسس في اتحاد الأكاديميين والعلماء العرب، الدكتور محمد مصلح الزعبي، أن محبته صلى الله عليه وسلم تعد أصلا من أصول الدين، وجزءا من العقيدة، وشرطا لكمال الإيمان، مشيرا إلى أن البخاري روى بسنده من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”. وبين الزعبي، وهو أستاذ الحديث النبوي في جامعة آل البيت، أنه لابد أن تكون محبته صلى الله عليه وسلم منهجا يتبع، وحياة تعاش، وأخلاقا يقتدى بها، ولذلك جعل الله تعالى اتباع نبيه علامة على محبته جل وعلا، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} (آل عمران:31). وعن أجر محبة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، قال الزعبي إنها كثيرة لا تعد ولا تحصى، كما أن أحباب النبي رفقاؤه في الجنة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: “أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة؟ قال: «وماذا أعددت لها» قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: “أنت مع من أحببت”، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت»”.
وأوضح أستاذ الحديث الشريف وعلومه في قسم أصول الدين في جامعة اليرموك، الدكتور خالد محمد الشرمان، أن محبة الرسول الكريم ليست مجرد محبة العاطفة أو ميل القلب، وإنما اتباع واقتداء، ومتابعة وفداء. وبين أن من أهم الوسائل في غرس محبة رسول الله في الأجيال، هي القدوة الصالحة، والحديث الدائم عن النبي وسيرته بما يتناسب مع الموقف والعمر، وتبيان مظاهر كل خلق لدى الرسول الكريم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع اسمه. ومن الوسائل أيضا، تربية الأجيال على السلوكيات التي كان يتمثل بها صلى الله عليه وسلم، كطلاقة الوجه والسماحة والتبسم، وتخصيص جلسة أسبوعية للحديث عن الرسول، وتحبيبهم على قراءة كتب سيرة المصطفى وسنته.
–(بترا)/ بشرى نيروخ-
التعليقات مغلقة.