الإدارة الإستراتيجية للقطاع العام
د.عبدالله محمد القضاة
=
إن وجود رؤية إستراتيجية شمولية للقطاع العام يعتبر ضرورة ملحة في ظل التوجيهات الملكية السامية لتحديث الدولة الأردنية في مئويتها الثانية ، وإن غياب تلك الرؤية نتج عنه ضعف العمل المنظومي والمؤسسي الإستراتيجي للوزارات والبرامجية للوزارة الواحدة، وكذلك ضعف التركيز على النتائج كعنصر أساسي في تحديث الادارة الحكومية و متابعة الممارسات المبتكرة و استخدام أدوات القياس والتحليل وتطوير أدوات جديدة في ممارسات الخدمة العامة.
كما أن وجود العديد من الهيئات والمؤسسات غير المبرر، اسهم وبشكل جلي -إضافة لما ذكر- في صعوبة تفنيذ القرارات والوصول إلى قرارات توافقية مبنية على الحقائق والمعلومات والتخصصية، وإشغال مجلس الوزراء بأعمال تسيير القرارات الإدارية في الوقت الذي يفترض أن يكون تركيزه منصّباً على تحديد التوجه الاستراتيجي ومتابعة تنفيذه من خلال مؤشرات اداء) (KPIS لكل وزارة اضافة الى رسم السياسات العامة واتخاذ القرارات على المستوى السياسي والاستراتيجي، ومتابعة الأداء الحكومي، ناهيك عن تعدد الاستراتيجيات والخطط والبرامج مع غياب التكاملية فيها سواء على مستوى الأهداف المرجوة أو المشاريع التنفيذية، حيث أظهرت تقارير مركز الملك عبدالله الثاني للتميز ان معظم الاستراتيجيات الخاصة بالوزارات شكلية وغَير مطبقة وهي لغايات متطلبات الجائزة ، وان القيادات الحكومية لاتعنى بإعتبار الإستراتيجية خارطة طريق الوزارة أو المؤسسة، وهذا بالطبع أدى الى عدم وضوح طبيعة دور مجلس الوزراء في الإستراتيجيات وتحديد الأهداف الوطنية ومتابعة قياسها بشكل منهجي.
لقد إنعكس ضعف الرؤية الإستراتيجية للإدارة العامة الأردنية على كفاءة الجهاز الحكومي، فقد أظهرت مؤشرات كفاءة الحكومة الأردنية وفق تقرير البنك الدولي عام2017 بمعدل 57.69 % وبمعدل 57.21 %عام 2018 مما يدل على وجود إنخفاض معدل كفاءة القطاع الحكومي حسب منهجية قياس البنك الدولي مقارنة مع الدول في مجال التقييم كحجم الجهاز الحكومي، كما تراجع الاردن من 51.9 في عام 2018 الى 49.6 في عام 2020. كما ان ترتيب الاردن (64 )عالميا في مؤشر أداء القطاع العام performance sector Public. وحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي للأعوام 2019 -2020 ،بعدما كان ترتيب الاردن في المؤشر ذاته (52 )عالميا في تقرير 2017-2018، كما حصلت الاردن على ترتيب 64 عالميا حسب تقرير التنافسية الصادر في الربع الاول من عام 2020 والصادر من المنتدى الاقتصادي العالمي وبلغت نتيجة الاردن في محور الثقة بالحكومة ضمن تقرير الحرية الاقتصادية لعام 2020 الصادر من مؤسسة هيرتج فاونديشن معدل 49.6 مقارنة في عام 2019 حيث بلغت 51.9 .
على الرغم من بعض النجاحات التي حققتها الحكومات السابقه في مجال الإدارة الإستراتيجية في القطاع العام إلا أن الواقع الحالي يعاني من العديد من نقاط الضعف نورد أبرزها والتي تدفعنا بإتجاه مطالبة الحكومة بالإسراع بالشروع بتحديث هذا المحور والذي يتوقف عليه نجاح المحاور الأخرى في الإدارة العامة للدولة :
- (غياب الرؤية) إفتقاد مؤسسات القطاع العام بشكل عام إلى النهج العلمي في تطبيق الإدارة الإستراتيجية القائم على رؤية واضحة المعالم للدولة ، بحيث تنبثق عنها خطط إستراتيجية وقطاعية قابلة للقياس بالإعتماد على مؤشرات معتمدة مسبقا من مرجع تنظيمي مركزي يرتبط برئيس الوزراء.
- غياب تشريع (قانون) تنشأ بموجبه إداره / مكتب للرؤية الوطنية يرتبط برئيس الوزراء ويتضمن المهام الرئيسة للإدارة الإستراتيجية وإلزام كافة مؤسسات القطاع العام بتنفيذها وإستخدام مخرجاتها لتقييم الأداء المؤسسي والمسائلة.
- إن وحدات التطوير المؤسسي المعنية بالتخطيط الإستراتيجي في مؤسسات القطاع العام بقيت عديمة الفعالية بسبب غياب الدعم الكافي لها وخاصة لعدم توفر العنصر البشري المتخصص فيها وغياب منهجية وطنية موحدة وملزمة في إعداد وإعتماد الخطط الإستراتيجية للدوائر ووضع المستهدفات وفق المؤشرات المعتمدة إضافة إلى معوقات أخرى متعلقة بالأتمتة والربط الإلكتروني الفعال مع الجهة المركزية وعدم توفر المعطيات الإحصائية الكافية.
- افتقاد الإدارة العامة لمراكز دعم القرار كالإعتماد على الإحصاءات الدقيقة والدراسات التحليلية الموضوعية التي تساعد على الإستشراف ووضع الخطط المستقبلية .
- عدم تطبيق النهج التشاركي في عملية التخطيط الإستراتيجي حيث لايتم إشراك الإدارات والمؤسسات العامة، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والمعنيين للإستماع إلى موقفها وملاحظاتها، إضافة إلى عدم بذل الإدارات والمؤسسات العامة الجهد الكافي لشرح خططها وبرامجها لأصحاب المصالح بشكل منهجي لكسب التأييد.
- عدم تطبيق الرقابة والمساءلة والمحاسبة بطريقة فعالة ومجدية ّفي الإدارة العامة، وعدم إستخدام مخرجات التقييم والرقابة في القرارات الإدارية المختلفة.
- غياب المرجعيات التشريعية التي تحكم العمليات الإستراتيجية وتضمن إستمراريتها والزاميتها بكافة الظروف والإزمنه ومنها تغيير الحكومات أو تعديلها.
- الضعف وعدم التكامل في إستخدام التكنولوجيا والأنظمة الألكترونية التي تعزز عملية التخطيط والمتابعة بين الأجهزة الحكومية من جهة وبينها وبين الإدارة المعنية في رئاسة الوزراء من جهة اخرى.
لن يتحقق أي إصلاح للقطاع العام إلا من خلال رؤية وطنية شمولية تحضى بدعم ومتابعة من جلالة الملك والتزام حكومي متكامل ونهج تشاركي مستدام، وهذا يتطلب إصدار قانون يشرع هذه الرؤية وينشئ الجهة الإدارية التي ستضطلع بمتابعة تنفيذها عبر وحدة للإدارة الإستراتيجية الحكومية ومركز لدعم القرار، ويجب أن يتضمن القانون نصوص تلزم كافة مؤسسات القطاع العام بإنشاء وحدات للتطوير المؤسسي ضمن وصف ومواصفات فنية دقيقة ويحدد الرابط بينها وبين الجهة التي تدير الرؤية الوطنية بالشكل الذي يضمن الإلتزام بالمؤشرات الوطنية للأداء والمستهدفات السنوية للإنجاز وفق الخطط الإستراتيجية المؤسسية والقطاعية التي ستلتزم كافة المؤسسات بتبنيها في ضوء الرؤية الوطنية المحددة المعالم وذات الأهداف الوطنية القابلة للقياس ، وكذلك رصد ومتابعة الأداء المؤسسي بإستخدام أفضل التطبيقات الإلكترونية ضمن سياسة التحول الرقمي ، كما يلزم التشريع إستخدام مخرجات الأداء المؤسسي لكافة القرارات الإدارية من ترقية وترفيع وتحفيز ومساءلة وما إلى غير ذلك.
ويتطلب نجاح الإدارة الإستراتيجية في القطاع العام أيضا توفير الإحصاءات الدقيقة والدراسات التحليلية الموضوعية التي تساعد في بناء المؤشرات الوطنية للأداء وتمكين المختصين من الإستشراف ووضع الخطط المستقبلية ودعم القرار الحكومي، كما يتطلب مأسسة وتعزيز النهج التشاركي في عملية التخطيط الإستراتيجي يضمن إشراك الإدارات والمؤسسات العامة، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والمعنيين للإستماع إلى موقفها وملاحظاتها.
الإدارة الإستراتيجية الفاعلة للقطاع العام تتطلب تطبيق عملية الرقابة والمساءلة والمحاسبة بطريقة فعالة ومجدية وإستخدام مخرجات التقييم والرقابة في القرارات الإدارية المختلفة بشكل إلزامي، ولابد من تحسين إستخدام التحول الرقمي وأفضل الأنظمة التكنولوجية في تعزيز عملية التخطيط والمتابعة بين الأجهزة الحكومية من جهة وبينها وبين الإدارة المعنية المقترحه في رئاسة الوزراء من جهة اخرى.
مطلوب من الحكومة التحرك السريع للإستجابة للتوجهات الملكية بضرورة تحديث الإدارة الحكومية ، والإستعانة بكافة الخبراء الوطنيين؛ وهم كثر؛ لإطلاق مشروع وطني يعيد الألق للإدارة العامة الأردنية ويجعل منها النموذج القدوة في منطقتنا العربية ومضاهات أفضل التجارب الإدارية العالمية .
* امين عام وزارة تطوير القطاع العام سابقا.