لا تكنْ بِعقليةِ فاشلْ/ هبة أحمد الحجاج
–
لِطرقاتِ حبّات المطر على النافذةِ وقعٌ جميلٌ في النفس، أشبه بسمفونية فريدة تغنّيها الطبيعة، لذلك جمعينا بلا استثناء ينتظرُ الشتاء وطقوسِ المطر ليصنعَ البُخار الصاعد من فنجانِ مشروبنا الدافئ كراسةً ضبابيةً على زُجاج نافذتي، زُجاج سيارتك .. أيّن كان ذلك الزجاج، ونعودُ كالأطفال وتخطُ أناملنا على هذهِ النوافذ ونكتب ما يحلو لنا.
ولكن حين يشتدُ المطر نُصبح كالطفلِ الصغير الذي يُشاهد المطر في أول سنةٍ من حياته، فيُصبح يركضُ هنا وهناك ويضحكُ ويصفق وقد يفتحُ بابَ المنزلِ من شدةِ الحماس الممزوج بالفرح ويركضُ خارجًا ليستمتع بتساقطِ قطراتِ المطر عليه، وهكذا نحن مهما كبرنا بأعمارنا نصبح كالأطفال عندما يتساقطُ المطر، البعضُ يقفُ على النوافذ وينظرُ إلى هذا المنظر مستمعًا بأصواتِ الرعد وحبات المطر ، والبعضُ الآخر “وهذا يمثلني” يأخذُ مظلته ويركضُ مسرعاً نحو البابِ ويمشي في الطُرقات المبتلةِ بمياهِ الأمطار، ويتذكرُ عندما غنت فيروز “بأيام البرد وأيام الشتي والرصيف بحيرة والشارع غريق” تمامًا كانت هذه هي حالات الشوارع والطُرقات، يا لهُ من منظرٍ خلاب، ظننتُ نفسي للتو أنني أنا الوحيد الذي قد خرجَ من بيته ليستمتعَ بمنظرِ الشتاءِ عن قُرب، لكنني وجدتُ الأطفالَ يتراقصون تحت المطر ، وأبائهم وأمهاتهم يمشون تحت المطر ويتبادلون أحاديثهم وقصصهم القديمة الممزوجة بالشوق والحب، ولفتَ مسمعي صوتُ ضحكةٍ جميلة، صدقاً ضَحكتُ بِسببها ، إنها عدوى الضحك على ما أعتَقد، فوجدتُ صديقات في سن الشباب يضحكونَ على صديقتهم التي كانت تُقلد لهم حركةً معينةً تعلّمتها على مواقع التواصل الإجتماعي، وهذه الحركة فقط تُطبق في فصلِ الشتاء، لكنها لِلأسف باءت بالفشل ،أو رُبما لحسنِ الحظ أنها باءت بالفشل، لأنها لولا ذلك لما كانت سبباً في رسم الضِحكة على وجهِ صديقاتها ووجهي أنا أيضاً ههههه، شعرتُ ببعضِ التعب وقررتُ الجُلوس، فوجدتُ مقعدًا ولله الحمد أنه لم يبتل، وأخذتُ أراقب أفعال الناس عِندما تتساقطُ الأمطار وكأنهم عادوا أطفالًا صغارًا، نظرتُ إلى شابين يجلسان مع بعضهما وكأنهما ينتظران الحافلة التي قد تمرُ من هُنا، وكانا يتبادلان الحديثَ بصوتٍ مرتفع، كان أحدهما يتكلمُ عن امتحان، واستوقفتني جملة “لم أدرس ولكنني أُريد أنْ أنجح” ، نظرتُ له نظرةَ اندهاش وكأنني أقول له “كيف ذلك!؟” وقدْ نَظر إلي بنظرةٍ ممزوجة باستخفاف وتنم عن أنهُ شاب يخلو من حِس المسؤولية كيف؟! ولماذا؟! لا أعرف ؟!
لاحظةُ من بعيدٍ أن الحافلةَ تقترب من مكانِ اصطفافها، وأخذ ذاك الشاب يُلملم أغراضه متأهبًا للصعود، نظرتُ له وقلت أتعلم غابرييل لاوب؟ ولكني فكرتُ وقلتُ “وكيف لك أن تعلم من هو؟! أنت أساسًا لم تدرس موادك الدراسية ، كيف ستقرأ ؟ المُهم هذا الشخص قال “الكسول هو من لا يُكلف نفسه عناء تبرير كسله”.
وتذكر كونكَ أعرج خيرٌ من قعودكَ الدائم، نظرَ إلي ثم نظرَ إلى الأرض وصعدَ بسرعةٍ إلى الحافلة.
وإذ بسيارةٍ مسرعةٍ وكأنها تسابقُ الريح، اصطدمت بالعمود الذي في الطريق ، ولولا لطفُ الله ثم قفزي بسرعةٍ على الكرسي الذي أجلسُ عليه لصدمتني، قد يثيرُ لك هذا الموقف الدهشة ؛ الممزوج بالرعبِ قليلاً ولكن المثيرَ للدهشةِ و الصدمة في آنٍ واحد أن السائق الذي كان في السيارةِ عندما خرجَ من السيارة، لم يطمئن عن حالي! لم يسألني ماذا حصل لك! هل أنت بخير ! أي نوعٍ من تلك الأسئلة التي تُشعركَ أنه مخطئٌ بحقك، وأنه لم يقصد أن يحصل ما جرى ؟!
بل على العكسِ تماماً أخذ بالصراخ واللوم على الشارعِ أنه معتمٌ قليلاً، وأن الرصيف مكانهُ ليس مكانًا مناسبًا، و أنهُ السبب بحدوثِ الحادثة، وأخذ ينظرُ إلي ويقول : انظري انظري أيضاً العمود أيُعقل أن يكون هنا عمود، وأنتِ كُنتِ جالسةً على هذا الكرسي ، لو لم تقفزي قد تكونين في المستشفى الآن .
نظرتُ نظرةً مستغربةً من الذي حدث؟ ! من الموقف؟ ! من ماذا يقول هذا الشخص؟ ! وقلتُ في نفسي ” أتعرف ما هو أكثر شيءٍ مُحزن في هذه الأمور؟ أبشعُ ما فيها أنك تألفها” . – بهاء طاهر.
ثم نظرتُ لهُ وقلت : ما رأيك أن أروي لك قصة؟! نظر إلي وقال باستغراب: قصة؟ ! قلت له : نعم نع نعم قصةً قصيرةً . ” قام رجلٌ بطلبِ تأشيرة هجرة، سأله الموظف: أين تريد الذهاب؟ فأجاب الرجل: ليس مهماً، فعرض الموظف على الرجل كرةً أرضيةً وقال له: اختر البلد لو سمحت، نظرَ الرجل إلى الكرة الأرضية، أدارها ببطء. ثم قال: هل لديك كرةً أخرى؟! “– ميلان كونديرا .
وذهبت ، نظرتُ له ووجدته مصدومًا وينظرُ باتجاهي، لعل وعسى أنهُ فهم مقصدي.
أكملت المسير تحت قطراتِ المطر، الله كم أحب المطر! وكم أحب السيرَ تحت المطر! الناسُ يحتمون منه برفعِ مظلاتهم فوق رؤوسهم، أما أنا فأسير تحت المطرِ بلا مظلة، مبللاً بمشاعرِ الحب والاشتياق والحنين، وبالصور الشعرية الزاهرة، وأنا متأملًا تلك القطرات والأجواء الجميلة، تلقيتُ رسالةً على هاتفي وكانت من صديقةِ العمر، وكان مكتوبٌ فيها “لن أحمل مظلّة، سأقف تحت المطر حتى تأتي لندخل باب منزلك سويّاً”.
أصبحتُ أركضُ مهرولةً ، أركضُ تارةً وأنظرُ إلى الشارعِ تارةً أخرى لعلي أجدُ سيارةً تنقلني بشكلٍ أسرع إلى صديقتي، لأن الكون برفقةِ صديقاتي، سَنَحْتَسِي القهوة، ونتحدثُ عن أشياء لا تليقُ إلا بنا. سنضحكُ حَتى البكاء.
وأنا أنتظر وإذ أرى قطعتين من الأرض، إحداهما مزروعة والآخر قاحلة، مع أنهما تعرضتا لنفسِ ظروفِ البيئة المحيطة، كان هناك شخصان على ما أعتقد أنهما كان يتنازعان على هاتين القطعتين، نظرا باتجاهي وشعرتُ لوهلةٍ أنهما وجدا كنزاً ، أتوا إليه مسرعَين وقالا بصوتٍ واحد : نُريدك أن تحكمَ بينَنا ! ما رأيك؟ !
أجبتُ على الفور: إذا أتاك أحد الخصمين، وقد فقئت عينه، فلا تفض له حتى يأتيك خصمه، فلعله قد فقئت عيناه جميعاً.
نظرتُ إلى صاحبِ الأرضِ المزروعة وقلت له: ماذا فعلت لأرضك حتى أصبحت بهذا الشكل؟ ! ردَ على الفور: تمرّ الزراعة بِمَرَاحِل عديدةٍ بدءاً من حراثة الأرض إلى حصاد المحصول، وتكونُ بدايتها بتجهيز التّربة؛ حيث تُستعمل الآلات والمَركبات الحديثة لتقليب التّربة وحرثها، ولهذا عدّة فوائد؛ فمن جهةٍ أولى تُساعد هذه العمليّة على تَفَكُّك حُبيبات التّراب، ومن ثم تزيدُ تهويتها ليمرّ المزيد من الهواء والماء عبرها، وكذلك فإنّها تُساعد على قتل الحشائش الضارّة العالقة بالتّراب، وقلب بواقي المَحاصيل السّابقة (مثل جذور وسيقان النّباتات) فَتَتَحَلَّل بسهولة ومن ثم تزيدُ من خصوبة الأرض. تُفيد هذه العمليّة في إعداد المكان المُناسب لوضع البذور فيه، فعند الانتهاء منها تكونُ التّربة أكثر استعداداً لتلقّي بذور النّباتات وتحويلها إلى جذور ونباتات صغيرة وبعد نموّ البذور الأولى تتمّ العناية بالمحصول إلى أن يُصبح جاهزاً للحصاد والتّخزين لبيعه.
وأنا قمت بكل هذه المراحل بإتقان وحِرفية.
نظرتُ إلى صاحب الأرض القاحلة وقلتُ له: وأنت ماذا فعلت، هل تبعت هذه الخطوات كما فعل جارك؟!
رد بجوابٍ ممزوجٍ باستخفاف وقال: أنا لم أفعل شيئاً.
دُهشتُ وقلتُ له على الفور : صعب أن تكون الأرض أمامك مفتوحة الذراعين، ووحدك تصلب جسدك على قطعة خشب بالية.
لن تمطرَ السماء أزهاراً أبدًا، فإذا أردنا المزيد من الأزهار يجبُ علينا زراعةَ المزيدِ من الأشجار.
جورج إليوت.
رحلةُ النجاح لا تتطلبُ البحث عن أرضٍ جديدة ،ولكنها تتطلب الاهتمام بالنجاح والرغبة في تحقيقه، والنظر إلى الأشياء بعيونٍ جديدة.-إبراهيم الفقي.
كيف تنتظرُ المطر إذا لم تزرع السنابل.
نظرتُ له مجدداً وقلت : نحن في أي فصلٍ الآن؟ ! رد بكلِ سخرية “الشتاء بالتأكيد” قلتُ له : سوف يسألك الشتاء عما فعلته في الصيف، وها قد سألك.
سمعتُ صوتَ سيارةٍ آتيه من بعيد، فركبتُ بها على الفور، وسرعان ما وصلتُ إلى منزلي وكانت صديقتي تنتظرني بالفعل ، دخلنا سوياً إلى المنزل، ذهبتُ إلى النافذةِ مُسرعةً وقمتُ بفتحها ،وقمتُ بالصراخِ بأعلى صوت وكأني أُريد أن أُسمع العالم بأسره “لا تكن بعقليةِ فاشل”.
نَظرتْ إلي صديقتي بنظرةِ دهشةٍ مُتسائلة وقالت: أنا لستُ فاشلة والدليل أن هناك معلومة أن تتنافس رائحة القهوة مع رائحة المطر، ويفوزان سَوِيًّا. ونقول في هذه المناسبة؛ لو كان للحب رائحة لكانت رائحة القهوة في يومٍ ممطر.
وأنا قمتُ بتحضيرها في هذا الوقتِ تماماً.
قلتُ لها : ومنكم نستفيد . وأصبحنا نضحكُ بسخرية.
الحياةُ لحظة إملأها بِالْفَرَحِ، أكسوها بِالأمل أطربها بِالضحك، وجرّدها من الحزن فَلا شيء يستحق.
التعليقات مغلقة.