مواقع انجيلية في الأردن يتتبع حكاياها فريق مسارات الاستكشافي
مسار على درب الأردن، قد جمع ما بين التاريخ والقداسة، وما تشعر فيه دون شرح، فطاقة المكان تتحدث عن أسلافنا ومن كان هناك في أجواء ماطرة، والتي هيجت رائحة الأرض، وأعادت ما دار عليها من أحداث فاصلة والتي سُطرت بذاكرة التاريخ وغاب عنها الإرشاد والتوعية.
بدأ مسارنا من كهف المعصرة في بيت إيدس حيث سواد الركام يتجمع في الأفق، معلناً أنه سيكون يوماً ماطرا وهو ما تتبعنا حالته الجوية قبل رحلتنا بأيام لتحديد ما نحتاج إليه من تجهيزات وسبل السلامة، وهيالواقي
المطريّ للكاميرات وملابس حرارية للمحافظة على حرارة الجسم، وحذاء ذو فرزات عريضة كي لا يلتصق به الطين ويحمينا من خطر الانزلاق، وواقيات الساقين لمنع الوحل من انسيابه بالحذاء، بالإضافة لقناع الوجه المبطن، والنظارة مغلقة الجوانب للحماية من الريح، وغلاف مطري للجوال لضمان دوام الاتصال، وقراءة خارطة الطريق، ولا يمكن أن ننسى أهمية عصي الارتكاز مدببة الرأس ذات أهمية كبرى بحفظ التوازن، وأخيراً ما يكفي من ماء وعصير وبعض الفواكه للننطلق من ارتفاع 575م نحو الغرب، فهكذا استقبلنا المطر وأرض بيسان والجليل، هبوطاً نحو الأغوار الشمالية – 192م.
وبعد جولة بالكهف الروماني بيزنطيّ التاريخ، والذي يحتوي على معصرة متكاملة التي تم ترميمها لتعود عمارتها كما كانت عليه في ذلك العصر، وحوض طحن وقبرين ما زالا شاهدين على تلك الحقبة ومكان تُرك في أثره القدم والقداسة إن صحَت الرواية، بالإضافة إلى ما حولها من أنظمة حصاد مائي و قنوات وآبار ومشارب شقت بصلب الصخر الأصم والذي تجاوز ما لمحناه في البلدة لوحدها قرابة العشرين بئرا، ولليوم ما زال يستخدمها الأهالي للشرب والسقايا.
الدير الكبير
وما هي إلا بضعة كيلو مترات حتى وصلنا للدير الكبير وهو خلة عيسى «صير» المذكور في إنجيل برنابا ( 99: 1-3 ) «ولما خلا يسوع بكهف في البرية في (تيرو) على مقربة من نهر الأردن دعا الاثنين والسبعين مع الاثني عشر وبعد أن جلس على حجر أجلسهم بجانبه وفتح فاه متنفساً الصعداء»، وهو المكان المعتقد أن السيد المسيح قد اختلى فيه خمسة أيام بعد معجزة إطعام الخمسة آلاف شخص في الجليل من سمكتين وخمسة أرغفة، وكان برفقته 12 من تلاميذه و72 من اتباعه المؤمنين، وأول من أشار احتمالية ذلك من ناحية أثرية الباحث الإسباني (ج. بنتر) 1997 دون ذكره للسند البحثي، وهنا يأتي دور دائرة الآثار العامة وأهل العلم والمعرفة لتأكيد ذلك أو نفيه، واشتمل الموقع الذي تجولنا فيه عدة كهوف وأروقة بأرضيات فسيفسائية مذيلة بتوريقات وكتابات يونانية جاء فيها «في عهد جزيل القداسة الكاهن بورفورا وفيوم…» و «مارينوس ابن جورجيوس هم اللذان أقاموا هذه البلدة» حسب ترجمة الباحث د. عبدالقادر الحصان، وهناك كهوف دخلنا فيها وحجرات وأروقة ومدافن وأحواض تعميد وطهارة، ويعتقد أن المكان تم إقامته تخليداً لذكرى زيارة نبي الله، الذي اكتشف بمحض الصدفة جراء انتهاكات لصوص الآثار 1994 الذين تم ضبطهم.
وما إن غادرنا الدير إلى وادي «العرقوب» بين كفري عوان وراكب حتى جادت السماء بغيثها، والذي تطلب منا أخذ الحيطة والحذر من خطر الانزلاق، ولقد كانت علامات درب الأردن والقراقير المتوالية ترشدنا مروراً بتل أبو الزعرور وعين الدالية قرب التقاء شعاب وادي صير بوادي النمل، وما فيه من بلوط وملول معمر، وبداية ظهور نباتات الأرض من زعتر وميرامية، وبقايا ما افترسه الذئب أو الضبع من غنم قد دل على ذلك من أسلوب النهش والإجهاز عليهم.
تل الطنطور
أخذنا استراحتنا بعد سكون المطر من على تل الطنطور المشرف على طبقة فحل وفيه بقايا آثار كانت لحامية حتى يتم مراقبة الطريق، وكأس من الشاي الذي يعيد الدفء إلينا والطاقة والعزيمة، وعبر الكتف الشمالي للوادي اتخذنا طريقنا الترابي مرورواً بعدد كبير من مزارع النحل الذي يعد انتاجه الأجود في المملكة لتنوع الأزهار البرية وكثرة الأشجار اللوزية هناك، إضافةً إلى الحديث مع الراعي عن المكان وما يحتويه من أسرار وجحور تأوي الكواسر ومدى اهتمامه بحماره الملفت للانتباه حيث بذل جهد كبير بتزيينه بأصواف ملونة من جز خرافة، وفكرته الابداعية البسيطة التي من الممكن تعميمها للدواب العاملة بخدمة نقل السياح في البتراء تحديداً.
تغيرت بعد ذلك طبيعة الجيولوجيا ودخلنا بتكوين طبقة فحل الذي يصل عمره لنصف مليون عام بقسمية العلوي الجيري الأبيض الصلب والسفلي من رواهط حصوية وجيرية وصوان، كما عثرت بعثات التنقيب فيه على أدوات حجرية تعود للحضارة الآشولية المتأخرة 200 ألف عام.
طبقة فحل
لنصل إلى بيلا وهي إحدى مدن تحالف الديكابولس الرئيسية والمسماة نسبةً للمدينة التي ولد فيها القائد الإسكندر الأكبر عندما كانت تحت سيطرة الحكم الإغريقي 310 ق.م، وجلب إليها نفر من أهالي مقدونيا، وفي مصر وجدت كتابات ذكرتها بيهليوم أبان الملك الفرعوني سيزو ستربس 1840 ق.م، بعد أن غزاها الفراعنة واستولوا عليها وغنم نفائسها وأسلحة جندها، ومنها تولد توحيد الآلهة (آلهة الشمس) بزواج نفرتيتي ابنه ملك الحثين إلى اخناتون بمباركة عريبو فحيلو ملك فحل، أما بعهد بطليموس الثاني بدل اسمها إلى (أرسينونيه)، حين كانت مسطيرة على طريق جلعاد القديم بين بيسان وعجلون وجرش وعمون.
جلنا بآثار المدينة التي هُجرت بعد زلزال عام 746م، وما اكتشف فيها من الكنيسة الغربية المزينة بالرخام وأرضيات الفسيفساء التي دمرت بغزو الفرس 614م وأعيد بنائها، والكنيسة الشرقية والمدرج وبقايا الحصن على التل المشرف، وقد ذكرها ابن خرداذبة بمرجعة المسالك والممالك وبمختصر كتاب البلدان لابن الفقيه وكذلك ياقوت الحموي وغيرهم الكثير من المستشرقيين لأهميتها وثرائها.
هذه المدينة توالت عليها الأحداث حتى استسلمت للقائد المسلم أبوعبيده عامر بن الجراح 635م بعد معركة حامية الوطيس قتل فيها ما يقارب من 80 ألف جندي من جيشها وقائدها شعلار بن مخراق بيوم الردغة وتعني الطين والوحل لغوص جيشها فيه وكان به هزيمتهم والإجهاز عليهم حسب المؤرخ ابن الأثير، ومن أعلامها الكاتب أرستون.
وانشد القعقاع بعد المعركة:
كَم مَن أَبٍ لي قَد وَرَثتُ فِعالُهُ … جَمِّ المَكارِمِ بَحرُهُ تَيّارُ
وَغَداةَ فِحلٍ قَد رَأَوني مُعلماً … وَالخَيلُ تَنحطُ وَالبَلا أَطوارُ
ما زالتِ الخَيلُ العُرابُ تَدوسُهُم … في حَومِ فَحلٍ وَالهَبا مُوّارُ
حَتّى رَمَينَ سَراتُهُم عَن أَسرِهِم… في رَوعَةٍ ما بَعدَها اِستَمرارُ
أما بالعهد العثماني فكانت تعرف بمزرعة طبلا وشهرتها بزراعة قصب السكر وتدفع 500 أقجة ضريبة لأمير البلقاء، ومثل سائر الأماكن لم يعمروا به شيء قط.
وما إن غادرنا المدينة حتى عاودنا خير السماء، متجهين شمالاً نحو حمة ابو ذابلة وبين تكويناتها الرسوبية من أودية وتلال كانت مصدر حياة فيها وآثار وخِرب كثيرة صادفنا تكشف جدرانها جراء السيول بعد مرورنا بنفق أبو ذابلة وتكوينه الجيولوجي الفريد الذي يمكن إدراجه وجملة ما يحيط ضمن خارطة السياحة البيئية.
ومع وصولنا لقمة الجبل حتى توقف المطر بشكل تام وخرجت الطيور مغادرة أعشاشها حيث خطوط الشمس تنساب بين بياض الغيوم برحمة أرحم الراحمين، لنعود ولنهبط مسترشدين بعلامات الدرب بين مزارع عطرت رائحتها المكان وأراضي حرثت حديثاً لنصل إلى نقطة النهاية مع الغروب لسد وادي العرب وحفاوة استقبال أصدقائنا بمنتجع البيئة قاطعين مسافة 24 كم من المستوى المتوسط الصعوبة بسلام.
التعليقات مغلقة.