هل الجامعات للشهادات فقط ؟
مهدي مبارك عبدالله
=
بقلم // مهدي مبارك عبد الله
لا شك بان رعاية الجامعات وتنظيم عملها على أسس تخطيط علمية جادة ومدروسة له نتائج وإسهامات كبيرة في تأهيل الكوادر وتعزيز دور العلم والبحث العلمي في نهضة الوطن لأن البحث العلمي غايته الاساسية النهضة الفعلية وليس مجرد اعتباره منطقة محايدة للعلاقات الفكرية المجردة التي تتقاذفها وتتحكم في مسارها القرارات الارتجالية ووجهات النظر المختلفة
المنظومة التعليمية الجامعية في الأردن شهدت عبر السنوات الماضية إصلاحاتٍ كثيرة بعضها مس جوهر المشكلة وبعضها الآخر كان مجرد إصلاحات شكلية ركزت على تطوير المرفق الجامعي وأهملت العنصر العلمي والبحثي وقد طغت على هذه الإصلاحات في الحالتين نظرةٌ كمية تقيس حجم الإصلاحات بما تحقق من إنجازات هيكلية مما يسمى( المادة الصماء ) الضرورية لتطوير الجامعة ولكنها ليست بيت القصيد في عملية الإصلاح الجامعي فهذا الإصلاح لا يتحقق إلا بتوفر جملة من الشروط العلمية والموضوعية التي حققتها الجامعات الغربية وبعض الجامعات العربية حين ارتقت إلى العالمية وأصبحت أنموذج يحتذى بها في التميز الأكاديمي وجودة التعليم
أعلمني قبل سنوات طالب صديق لي انه اثناء دراسته في جامعة آيندهوفن الهندسية في هولندا بأن الدروس التي كان يلقيها أستاذه في ( علم التحريك ) او مادة الديناميكا إحدى فروع الرياضيات التطبيقية وعلى وجه التحديد الميكانيكا الكلاسيكية على الطلاب كانت تشغل نحو العشرين بالمائة من وقته فيما الجزء الأكبر منه كان يقضيه في البحوث والاستشارات العلمية التي يقدمها للمعامل والمصانع والورش فضلاً عن السعي الدؤوب لإيجاد الحلول لمشاكل العمل وتطوير طرق الأداء والتصنيع
كما قال لي ان مثل هذا الأستاذ وأغلب زملاءه في الجامعة كانوا على نفس النمط لم يعودوا يحملون الجامعة أي كلفة مالية بل على العكس من ذلك ونتيجة جهودهم المتواصلة وفهمهم العملي لرسالة التعليم الجامعي أصبحوا يرفدون ميزانية الجامعة بالأموال الطائلة ما يفسر ان حسن الإدارة وتجويد مسارات التعليم في الصروح العلمية العليا يمكن لها ان تكون مصدرا للمال والاستثمار والمشاركة في تنمية المدن والاقتصاد على عكس ما يحدث في جامعات العالم الثالث ومنها الأردن حيث يستنزف تفريخ الجامعات كماً لا نوعاً الكثير من الميزانيات والامكانات
لا يقتصر الأمر في هذا الشأن على الجامعات الهندسية ذلك أن الاستشارات التي تقدمها كليات ومعاهد الفن الى مشاريع تجميل المدن وبيع النصب واللوحات الفنية وإقامة الفعاليات وورش العمل والنشاطات والمهرجانات يمكنها ان تدر على هذه الجامعات ايضا رؤوس أموال طائلة تساهم في تحويل هذه المراكز المعرفية الى مصادر تمويل تسهم في إنعاش الاقتصاد وتؤسس لنمط إنتاج اقتصاد المعرفة الذي طغى في البلدان المتقدمة منذ فترة بعيدة على نمط الإنتاج التقليدي
في الأردن يحدث العكس تماما فلا زالت الجامعات التي فاقت في أعدادها مثيلاتها في الدول المشابهة للأردن في الظروف الاجتماعية وتعداد السكان لا زالت تشكل عبئاً ثقيلاً على الميزانيات فضلاً عن تخريجها الآلاف من الشباب سنويا يتراكمون على في سجلات العاطلين عن العمل بغض النظر عن التفكير في احتياجات السوق المحلي او الإقليمي او حتى دراسة الفرص المتاحة
مع واقع كثير من الجامعات المتردي تبرز الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى الى دعم الجودة لا الكم في جامعاتنا وتحويلها الى مراكز معرفة حقيقية وصاحبة أدوار في تغيير حياة المجتمع لا مجرد مصادر لتوزيع شهادات أكاديمية لا فرصة لها في سوق العمل المحلي لاسيما حين يكون الخريج في مستوى متواضع من القدرات المعرفية ومهارات والابداع والابتكار
الحقيقة المؤكدة ان الطلاب الاردنيون لا يقلون قدرة على التفكير والإبداع عن شباب العالم المتقدم مطلقا لكن غياب البيئة التعليمية المناسبة والتخطيط السليم وفقدان تقنيات التعليم المتطورة وتخلف المناهج والبرامج وعدم مواكبة تقنيات التواصل المعرفي الحديثة مع العالم يضعهم في مستوى أداء أدني ومن ذلك نجد انّ اغلب خريجي جامعاتنا لا يجيدون اللغات الأجنبية المهمة في التواصل مع العالم مثل الإنكليزية او الفرنسية فضلا عن ضعفهم الواضح حتى في لغتهم الام العربية
كما لا يلمس المراقب دورا حيويا للجامعات والمعاهد العلمية في الأردن في توظيف المعرفة في التطوير والتنمية وقد روى لي أستاذ جامعي ان كل البحوث التي يقوم بها الطلبة الخريجون فضلا عن رسائل الماجستير والدكتوراه والدراسات العليا لا تتعدى كونها نصوصا إنشائية ليس لها أي دور حقيقي في النهوض بالبلاد وهي في النهاية تركن معظمها على الرفوف نهبا للغبار ومصيرها الحفظ في الأدراج المنسية المغلقة
ما يزيد من فداحة الخلل استثمار القطاع الخاص في التعليم الذي يحول الجامعات الأهلية الى مشاريع تجارية حتى بات الكثير منها غريبا في الشكل عن الجامعة بملامحها المعرفية المرموقة وقد أصبح هنالك سباق محموم بين الجامعات لتسليع التعليم واختطاف أكبر عدد من الزبائن من الطلبة الجدد خريجي الثانوية العامة لتتحول الجامعات بذلك الى مصانع لا تتوقف لتفريخ الخرجين والشهادات بدلا من انتاج المعرفة واستثمارها في الإنماء والبناء والتطوير حيث أضحى لا يوجد هنالك أي فروق بين بعض الجامعات والمؤسسات التسويقية التجارية من حيث العمل والاهداف
معظم جامعاتنا لا يوجد فيها تعليم متميز وليس لديها بيئة جامعية منتجة تشجع على الإبداع والبحث العلمي الا في صيغة ما تنشره من اعلانات مضللة وكاذبة لجلب الدارسين والواقع غير ذلك تماماً والعديد من الطلبة والمحاضرين يعرفون ذلك جيدا بانها تنهض على روافع تجارية بحتة وتعمل لمتطلبات السوق واحتياجاته لا للإنتاج المعرفي والتعليم المتميز ولتأكيد ذلك انظروا الى أسعار الساعات المعتمدة وهي تحاكي قدرات الأغنياء فقط اما أبناء الفقراء فلا مكان لهم في الجامعات مهما كانت معدلاتهم او تفوقهم رغم ان التعليم مثل الصحة ينبغي توفيره للجميع مجانياً او بأسعار رمزية وبالتالي الخلاص من عقلية السوق الرأسمالي المتحكمة في مسيرة ومستقبل الجامعات
ليس من الحق ولا من المنطق تخريج جيش من الحاملين لشهادات الدكتوراه في التخصصات المختلفة ثم لا يجد أكثرهم بعد ذلك وظيفة يعف بها نفسه وتعينه على تحقيق طموحاته وإنجازاته العلمية إضافة الى ضرورة تطوير مسارات التكوين وفرص العمل وانفتاح الجامعات على محيطها الاجتماعي والاقتصادي وتوفير قيادات جامعية تمتلك مخططات للإصلاح ولا تكتفي بالتسيير اليومي والروتيني للمصالح الجامعية فضلا عن الحاجة الى تجديد المناهج والبرامج بما يستوعب حاجيات العصر ومقتضيات التطور العالمي
معلوم إن الغرض من تأسيس الجامعات الوطنية هو تطوير الثقافة الوطنية وتنمية المؤهلات والقدرات ولكنها في عمقها ورسالتها تتجاوز هذا الغرض إلى الانتقال من المحلية إلى العالمية فالعالم في عصر العولمة اصبح قرية صغيرة ومقياس التنافس فيه بين الجامعات والمجتمعات معيار عالمي ولا يمكن للجامعات الأردنية وفق هذا المعطى العالمي أن تضمن لها مكانا محترما بين الجامعات الاخرى إلا إذا ارتقت إلى العالمية وهي غاية لا يمكن بلوغها إلا بتكوين فريق من الباحثين لهم إلمام بالثقافة العالمية وقادرون على المنافسة بأبحاث جادة وجديدة وليس بأبحاث مجترة ومكررة لا طائل من ورائها
التاريخ يذكرنا انه في عام 1492 طلبت ملكة قشتالة من كريستوف كولومبس الخروج في رحلة استكشافية من أجل الذهب ومنذ ذلك الزمان احتكر العالم المتقدم العلوم والمعارف ونجح بشكل مذهل في تحويل النظريات والعلوم الى تطبيقات وأصبحت الدول الخمس التي لا تشكّل سوى 12 % من العالم هي مصدر المعرفة المهيمنة بكل مجالاتها الهندسية والطبية والعلوم الإنسانية والادب والثقافات المختلفة بعد أن ساد نمط ديكارت في البحث والتقصي منذ أواسط القرن السابع عشر بعباراته المشهورة ( أنا أفكر إذن أنا موجود ) حين عزز ورسخ آلية التفكير النوعي والمتطور
لست ممن يبخس الناس أشياءهم أو يدعي بأن حال جميع الجامعات الأردنية فساد في فساد وسواد في سواد وبأنها قد فقدت البوصلة وتسير على غير هدى فهذه النظرة السوداوية فيها كثير من الإجحاف وبعيدة عن الموضوعية ومبنية على خلفية وفكرة دونية فلا مستقبل للجامعات عند أصحاب هذه النظرة إلا بارتمائها في أحضان الغرب وتقليدهم الاعمى وهي نظرة تكرس التبعية الثقافية في كل شيء للغرب التي تغذيها الفكرة الاستعمارية البشعة التي تهون من قدرات وابداعات الشباب الاردني ولا تعترف بها إلا إذا كانت تابعة للعقل الغربي وسائرة في ركابه
بعد هذا العرض يمكن لكل متابع لمسيرة الجامعات الأردنية الإجابة على السؤال التالي هل حققت جامعاتنا رسالتها التعليمية والعلمية الحقيقية وغرضها المنشود أم انتهى بها الحال إلى الطريق المسدود الذي كنا نحذر منه ونخشاه
ليس من الضروري أن تتفق إجاباتنا ولكنها من الحتمية الملحة أن تشكل لبنة من لبنات مفهوم التقدم والتطور نحو الإصلاح وان لا تكون مجرد مظهر من مظاهر التهوين من شأن ما يجري من خلل وانحراف وتراجع وسلبيات او نقد لذات النقد والتشويه مع الادراك بانه لا يمكن معالجة الواقع القائم بمجموعة ( قرارات تؤخذ بل بجملة مبادرات تتخذ ) من خلال وضع مخطط تعليمي وتكويني وبحثي منتج وشامل والتأكيد على إن الشهادة العلمية العليا لا تؤهل أحدا لإدارة المؤسسة التعليمية الجامعية إذا لم يصاحب هذه الشهادةَ خبرة وتميز وكفاءةٌ ظاهرة في التسيير والتفكير معا
mahdimubarak@gmail.com