الخروج الفرنسي من مالي انسحاب منسق ام فشل محقق ؟
مهدي مبارك عبدالله
=
بقلم / مهدي مبارك عبد الله
بعد 9 سنوات على أرض مالي وعلى نحو كان متوقع أعلنت فرنسا وشركاؤها الكنديين والأوروبيون يوم الخميس الماضي 17 / 2 / 2022 رسميا انسحابها العسكري من عملية برخان التي تقودها في مالي وداخل ( مجموعة تاكوبا ) وهي فرقة تضم قوات خاصة من نحو 10 دول أوروبية مكونة من 800 جندي تشرف على تدريب ومرافقة وحدات صغيرة متحركة من الجيش المالي في ميادين القتال
لفرنسا وجود عسكري في مالي منذ عام 2013 منذ زمن الرئيس الاسبق فرانسوا هولاند حيث يوجد نحو 2400 جندي فرنسي وقد قتل 53 جندي فرنسي في منطقة الساحل بينهم 48 في مالي كما ظلت القوات الفرنسية تعاني من هجمات الجماعات المسلحة المنتشرة في دول أخرى مجاورة
الانسحاب الفرنسي جاء بذريعة تدهور العلاقات مع المجلس العسكري في باماكو نتيجة العقبات المتعددة التي تضعها السلطات الانتقالية المالية وعدم توفر الشروط لمواصلة المشاركة العسكرية بشكل فعال في مكافحة الإرهاب ولهذا سيعاد تموضع القوات إلى جانب القوات المسلحة الأخرى للنيجر في المنطقة الحدودية لمالي مخلفة وراءها مساحات واسعة من الصحراء للجماعات الجهادية والمرتزقة الروس من مجموعة فاغنر
التدخل الفرنسي في مالي كان في عام 2013 تحت شعار المساعدة في وقف تقدم الجماعات المسلحة التي كانت تهدد البلاد ضمن استراتيجية واسعة في المنطقة لمكافحة الجهاديين تحمل اسم عملية برخان حيث تدخلت القوات الفرنسية لطرد المتطرفين الإسلاميين من السلطة لكن المتمردين أعادوا تجميع صفوفهم في الصحراء وبدأوا بمهاجمة الجيش المالي وحلفائه كما تم نشرت آلاف الجنود لمحاربة فرعي تنظيمي القاعدة والدولة وعلى الرغم من بعض الانتصارات التكتيكية المحدودة لم تتمكن الدولة المالية وقواتها المسلحة من بسط سيطرتها على الأرض من جديد
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في مؤتمر صحفي عقدة في قصر الإليزيه مؤخرا قال في تبريره للانسحاب أن فرنسا وشركاءها الأوروبيين لا يمكنهم ان يبقوا ملتزمين عسكريا إلى جانب سلطات أمر واقع ( المجلس العسكري ) لا نشاطرها استراتيجيتها ولا أهدافها الخفية ولا يجب أن تبرر مكافحة الإرهاب على أنها أولوية مطلقة بعدما تحولت الى اسلوب للاحتفاظ بالسلطة الى أجل غير مسمى
كما أعلن ماكرون أن إغلاق آخر القواعد الفرنسية في مالي سوف يستغرق من 4 الى 6 وأكد بأنهم سيبقون ملتزمين بوجودهم العسكري بثلاثة الاف جندي فرنسي في دول منطقة الصحراء والساحل وخليج غينيا المجاورة وإن فرنسا ستواصل محاربة الإرهاب من تشاد من بوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا إلى جانب تعزيز وجودها في النيجر المجاورة التي تحتفظ على أراضيها قاعدة جوية فرنسية تضم 800 جندي كما تنوي باريس عرض خدماتها على دول أخرى في غرب إفريقيا ( ساحل العاج والسنغال وبنين ) فضلا عن تقديمها الدعم والمساعدة في التدريب وتوريد المعدات والمشاركة في العمليات العسكرية
ينتشر في مالي بالإضافة الى القوات الفرنسية والاوربية 13 ألف جندي تابعين لبعثة الأمم المتحدة ( مينوسما ) من بينهم 300 جندي بريطاني و1,000 جندي ألماني يعتمدون على الدعم اللوجيستي الكامل على القوات الفرنسية وقد بات مستقبلهم مجهول حاليا
الأوضاع الأمنية في مالي تدهورت بشكل كبير بعد الإطاحة بالرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا في آب عام 2020 في الانقلاب الأول من بين انقلابين ووقع الانقلاب الثاني في أيار 2021 خيث تولت بعدهما السلطة مجموعة عسكرية رفضت تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية قبل 27 شباط 2022 تتصف بالنزاهة وتكون ذات مصداقية لإعادة مالي إلى النظام الدستوري في أقرب وقت ممكن وقد استغل العسكر مشاعر العداء المتزايدة لفرنسا في المنطقة حتى بين النخبة المتحدثة بالفرنسية للضغط عليها لترك البلاد
المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ( إيكواس ) جراء ذلك فرضت عقوبات على خمسة من كبار القادة العسكريين من حيث منع الدخول وتجميد الأرصدة وقد ردت السلطات المالية الحاكمة على ذلك باستقدام المرتزقة الروس من مجموعة فاغنر الذين يصل عددها اليوم إلى 1,000 في مالي والمعروفة بقربها من الرئيس الروسي بوتين حيث تعمل لخدمة مصالحها الاقتصادية وضمان أمن المجلس العسكري الحاكم في العاصمة باماكو وهي متهمة بحماية الطغمة العسكرية وإثارة العنف وارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان في إفريقيا كل ذلك بـ ( حسب ادعاءات الرئيس ماكرون المشكوك فيها طبعا )
منافسو ماكرون في الانتخابات المقبلة سوف يستغلون التدخل في مالي كسلاح للحديث عن فشله في الحرب وانجراره إلى المستنقع الافريقي وخسارته حرب المعلومات وعدم قدرته على مواجهة نظام متنمر وفاسد وفي هذا المجال علق إريك زمور المرشح الرئاسي المعادي للإسلام قائلاً يموت جنودنا لكي تهيننا دولة
الرئيس ماكرون رفض بشكل قاطع وصف مهمة الجنود الفرنسيين في مالي بالفشل وبرر ذلك بسؤاله ماذا كان سيحدث في عام 2013 لو لم تتدخل فرنسا ويجيب هو ايضا كنا سنشهد بالتأكيد انهياراً للدولة المالية لولا النجاحات العديدة التي حققها الجنود الفرنسيين
التوتر العام تصاعد في الأسابيع الأخيرة بين البلدين بعدما انتقدت الحكومة المالية فرنسا ووصفتها بالقوة الاستعمارية وطالبتها بالتخلص من سلوكها الاستعماري كما اتهم رئيس وزرائها شوجويل كوكالا مايغا فرنسا بمساعدة جماعات انفصالية في شمال البلاد وتحريض دول الاتحاد الأوروبي ضد بلاده كما عملت فرنسا من خلال ممثليها في المؤسسات الدولية على عرقلة المشاريع التنموية في مالي ولا زالت تضغط على المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا من أجل إصدار عقوبات قاسية ضد باماكو
على اثر ذلك وفي خطوة تصعيدية جديدة طردت مالي سفير باريس لديها جويل ماير رداً على تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جان لودريان التي قال فيها إن السلطة العسكرية في مالي خارجة عن السيطرة وغير شرعية ومن هنا وصلت العلاقات بين فرنسا والسلطة العسكرية الحاكمة في مالي إلى مرحلة اللا عودة
في حزيران من العام الماضي قرر ماكرون إنهاء عملية برخان في منطقة الساحل وتقليص عدد قوات بلاده من 5100 عسكري إلى ما بين 2500 و3 آلاف عنصر بالإضافة إلى الانسحاب من عدد من المدن الرئيسية وهو ما اعتبر بمثابة طعنة لجبروت فرنسا وكسر لصورتها الدولية كدولة عظمى في أعين العالم
قرار ماكرون سحب ما تبقى من قوات فرنسية في مالي وانهاء أكبر عملية مكافحة للإرهاب كانت مستمرة منذ سنوات عدة يعني ترك البلاد في عهدة الجماعات الجهادية ومرتزقة بوتين حيث كان يخوض آلاف من الجنود الفرنسيين مواجهات مع مقاتلين ينتمون إلى تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة منذ عام 2013 بعد محاولتهم السيطرة على العاصمة باماكو وبرغم الجهود الدولية المتعددة والأمم المتحدة فإنها لم تستطع القوات المحلية والأجنبية السيطرة على العنف الذي انتشر في الدول القريبة ما أدى إلى مقتل الآلاف وتشريد الملايين
مغادرة الفرنسيين تعني الوقوف على صعوبات بالغة في مواجهة تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى والجماعات الأخرى وهو بلا شك ضربة استراتيجية للغرب كما يعد نهاية مهينة لأطول عملية عسكرية منذ نهاية الحرب الجزائرية عام 1952 وسوف تترك أسئلة عديدة حول مصير قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي ستظل غير قادرة على مواجهة الجهاديين
ما يدعيه الرئيس ماكرون حول أسباب الانسحاب فيه وجهة نظر مغايرة تتعلق بالتوتر بين مالي والمستعمر السابق فرنسا التي لا زالت تحتفظ بنزعاتها الاستعمارية التي ولى عهدها ولم تعد مقبولة لدى الحكومة والشعب المالي وان توسع وتمدد التدخل العسكري والاقتصادي الفرنسي في مستعمراتها السابقة بغرب أفريقيا أو حديقتها الخلفية كما يقولون أدى لرفض عملية برخان بكاملها ووصولها إلى طريق مسدود ولا زال الساسة الماليون يتذكرون بغضب وألم استدعاء ماكرون لرؤساء دول الساحل الخمس بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد في مدينة بو
وكيف كان تعامله معهم بشكل جاف ووحشي ومهين وهو ما اعتبر جريمة لا تغتفر كما أن الشعب المالي يريد ازالة الشعور بالإهانة والعار تجاه التلاعب السياسي الذي تقوم بها فرنسا ليس مع حكامهم فقط وإنما في نظرتها الاستعلائية المستمرة تجاه كافة دول المنطقة
ما حصل صدقا هو أن فرنسا كانت قد امتعضت من الحرب في مالي بسب النتائج الغير المرضية التي عبر عنها الشعب عدة مرات في مظاهراته وكذلك عبر مواقف بعض الأحزاب الشخصيات المالية والذي ساعد في دخول مالي في مفاوضات مع الروس وأجنحة دولية أخر وان موقف السلطات المالية الحالية من تنويع علاقاتها العسكرية والأمنية لم يرق لفرنسا لأنها تعرف جيدا أن هذه الخطوة تعني إعلانا غير مباشر بأن عملياتها بالفعل قد فشلت وأن دورها في مالي أصبح على المحك
ولذلك سارعت لاتهام مالي بالتعامل مع مرتزقة فاغنر الروسية بقصد تشويه صورة سلطات باماكو الحالية لتشارك عبر الضغط السياسي والضخ الإعلامي في ثني مالي من مواصلة هذا الطريق
واقع الحال في دولة مالي الإفريقية يؤكد بان الخسائر كانت أكبر وأشد عمقا فرغم آلاف الجنود الفرنسيين المتمركزين هناك لم تنجح فرنسا بعد في تحقيق أي من أهدافها التي جاءت من أجلها كما تعاظم الرفض الشعبي وازداد وظهر جليا في الاحتجاجات التي أسقطت نظام الرئيس ولد إبراهيم بوبكر
فشل فرنسا في مالي ومنطقة الساحل تسبب في حدوث مشكلات كبيرة لاستراتيجية الدفاع الجماعي لأوروبا وقد كان وقعه اشبه بمعركة واترلو التي حدثت عام 1815 وكانت آخر معارك الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت التي هزم بها بصورة غير متوقعة وكذلك اليوم الحال بالنسبة للرئيس إيمانويل ماكرون وهو على وشك إطلاق حملته الانتخابية وان انهيار مغامرة باريس في الساحل كان متوقعا منذ نهاية الحرب الجزائرية قبل 6 عقود
خاصة وان فرنسا في عهد الرئيس ماكرون فقدت أي تأثير دولي رغم أنه كان دائما يحاول تصوير ما يجري بعكس ذلك أثناء اللقاءات الدولية أما على المستوى الداخلي فالبلاد تعيش أحلك أيامها سواء في الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي او مجال الحريات العامة والتماسك الوطني
ختاما نقول ان روسيا هي المستفيد الجيوسياسي الأول من الانسحاب الفرنسي حيث أقامت موسكو عقب الانقلاب علاقات ودية مع الحكومة الانتقالية في مالي ووقعت اتفاقية تعاون عسكري في حزيران 2019 وعززت علاقاتها مع الشخصيات العسكرية المالية التي دعمت أو ساهمت فيما بعد بانقلاب عام 2020 وحكمت البلاد ووقفت في وجه الاطماع الفرنسية الاستعمارية الجديدة وفرضت على ماكرون وحلفائه الخروج بهذه الصورة المربكة والمذلة
mahdimubarak@gmail.com