“التراث الشعبي في معان” حقول غنية من الفنون والمأثورات يوثقها العساف
ضمن إصدارات مئوية الدولة الأردنية، صدر عن وزارة الثقافة كتاب بعنوان “التراث الشعبي الأردني- في مدينة معان وجوارها”، (من خلال أرشيفات وزارة الثقافة)، قام بتحريره وتحقيقه رئيس الجمعية الأردنية للدراسات التاريخية والتراثية، د. عبد الله العساف.
يرى العساف، في مقدمته للكتاب، أن التراث الشعبي يعد ثروة وطنية وأممية وحتى إنسانية، من حيث إنه جزء من وجدان الشعوب والمجتمعات القديمة والحديثة، وركن رئيس من روحها القومية، فضلا عن قيمته التاريخية للأجيال التي تتبادله وتجعله جزءا أو مكونا رئيسا من مكونات حياتها وسلوكها، وهويتها المميزة؛ لما يمثله من قيمة رمزية تنبع أساسا مما يشمل من قيم وعادات وتقاليد، وخبرات شعبية وفنون تشكيلية، وأغان فلكلورية، وأزياء شعبية، وهي كلها صنوف من شأنها أن توفر للباحثين والدارسين حقلا خصبا لإجراء البحوث الرصينة، الأمر الذي يسهم في تكريس هذه القيم في ذاكرة الأفراد الشعبية، والأجيال المعاصرة واللاحقة.
ويشير المؤلف إلى أن التراث يعرف بأنه كل ما ينتقل عبر الأجيال من تقاليد وعادات وطقوس وعلوم وآداب وفنون، فهو لذلك يشمل حقولا غنية من الفنون والمأثورات الشعبية كالشعر والغناء، والموسيقا والروايات، والقصص والحكايات التي تجري على ألسنة المنتمين لهذا التراث، فضلا عن طقوس الزواج، والمناسبات الاجتماعية المختلفة، وما تشتمل عليه من تقاليد في الأداء، وأشكال التعبير، وألوان الرقص والألعاب، وغيرها.
ويواصل حديثه عن القيمة الرمزية الكبرى التي يشغلها التراث في وجدان المجتمعات التي تنتمي إليه، قائلا “تكمن في تلك الدينامية التي يشكلها التراث من خلال التواصل معه، وممارسته، والاحتفاء به لدى الأجيال الحاضرة واللاحقة، على أساس الإفادة القصوى من المعاني والقيم التي يقدمها لأبناء المجتمع، وكذلك تهيئة عقولهم ونفوسهم بأنه يعكس أصالة الأمة، من حيث إنها أمة ممتدة في التاريخ عبر سلسلة الأجداد الذين أنتجوا هذا التراث من جهة، ومن جهة ثانية تأكيد استمرار حضوره في أذهان الأجيال وعقولهم وضمائرهم”.
ويقول العساف إن فكرة المشروع بحثية رئيسة، حيث تنطلق إجرائيا وعمليا من إعداد دراسة مسحية شاملة، تخص عملية جمع التراث الأردني، سواء الشفوي منه أو المكتوب، والعمل على تحقيقه بالشكل الذي يليق به، وإجراء دراسات موثقة حوله، ومن ثم نشره وإصداره، والواقع أن بواكير هذا المشروع تعود إلى فترة مبكرة من حقبة السبعينيات في القرن العشرين؛ حيث كانت دائرة الثقافة والفنون الأردنية سابقا قد بدأته.
ويشير المؤلف إلى أن المشروع تضمن سلسلة إجراءات طويلة، هدفت إلى جمع الروايات والمعلومات التي تشمل جميع جوانب التراث الأردني، في جميع مناطق الأردن، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، في المدن والقرى والبوادي. ويأتي هذا الإصدار في إطار المشروع البحثي المذكور الذي يختص بجوانب عديدة من التراث الشعبي الأردني في مدينة معان وباديتها، علما أن جل المعلومات والروايات والمادة التراثية أخذت من أشرطة مسجلة (كاسيت)، محفوظة لدى أرشيف مديرية التراث في وزارة الثقافة، ما يجعل هذا الكتاب حلقة من سلسلة إصدارات وزارة الثقافة بمناسبة مئوية الدولة الأردنية العام 2021.
ويوضح أن تسجيلات معان اشتملت على مقابلات شخصية أجريت مع عدد من الرواة الكبار من أهالي معان، والمناطق المجاورة لها على اختلاف مكانتهم الاجتماعية وتنوعها، وهي مقابلات تحدثوا فيها عن تراثهم وتاريخهم وأحوالهم، وعن مختلف مجالات التراث، وبشكل أكبر التاريخ الشفوي الأردني، لا سيما طبيعة الحكم العثماني للمنطقة، ومشاركة عرب بادية معادن في الثورة العربية الكبرى إلى جانب قوات الشريف الحسين بن علي، ومرحلة تأسيس إمارة شرقي الأردن، وتحديدا قدوم الأمير عبد الله بن الحسين من الحجاز إلى معان سنة 1920، واستقباله من قبل زعماء وشيوخ مدينة معان وباديتها، ومساندة عشائر المنطقة له في تأسيس الدولة الأردنية الحديثة، إضافة إلى القصة الشعبية المحكية، والتقاليد والعادات الأردنية الأصيلة في الأفراح والأتراح، وطقوس رمضان، والحج، والأمثال والأغاني الشعبية، وغيرها من صنوف الفلكلور الأردني، وإضافة إلى القضاء العشائري، والشعر الشعبي، وتربية المواشي، والطب الشعبي، وسواها الكثير.
وحول الإجراءات البحثية، ينوه المؤلف إلى بعض الجوانب البحثية الإجرائية، وغير الإجرائية التي انتهجتها خلال مرحلة إعداد هذا الكتاب، إلى أن ظهر بصورته التي هو عليها، “حيث تطلب مني ذلك مجهودا كبيرا وحرصا شديدا، فضلا عن أنه احتاج إلى وقت زمني ليس بالقصير؛ وذلك من أجل أن تستقيم الأمور المعرفية والمنهجية والتاريخية على نحو صحيح منها: توفر المادة المعرفية، فقد تطلب ابتداء الاستماع الدقيق إلى مجموعة من الأشرطة (الكاسيت)، وتفريغها بلغة رواتها الأصلية، ثم إعادة بنائها وصياغتها من حيث الشكل والمضمون كي تأتي على صورتها المطلوبة، وقد كانت عملية تفريع المعلومات شاقة جدا، لا سيما تفريغ الشعر الشعبي الأردني وضبطه؛ إذ احتاج ذلك إلى دقة وصبر وانتباه كبير، وإلى إعادة تكرار الاستماع إلى التسجيل عدة مرات كي يجري نقل المعلومات على نحو صحيح، عمل الباحث على توظيف العامي بالفصيح، وترك أسلوب السرد كما هو بلغة بسيطة للراوي؛ كي لا يفقد النص روحه ومعناه.
بعد الانتهاء من تفريغ كل شريط (كاسيت)، كانت تجري إعادة ترتيب المواد وتبويبها حسب الموضوعات الموجودة لأغراض موضوعية ومنهجية، رابعا: جرى استحدام الهامش لتوضيح الألفاظ والكلمات والعبارات العامية، وتراجم الشخصيات، وبعض المواقع، التي وجدت فيها شيئا من الغموض بالنسبة للقارئ؛ وذلك من أجل أن تكون المادة المعرفية مقروءة ومفهومة للجيل الجديد، وللقراء من خارج الأردن الذين قد تلتبس عليهم بعض المعاني. خامسا: كثيرا ما جرى الرجوع إلى الكتب والمراجع، أو المواقع الإلكترونية للاستعانة بها بغرض ضبط الأسماء والأحداث والأشعار، والتحقق من التاريخ الزمني للحدث، وإرجاع كل رواية إلى تاريخها الذي وقعت فيه”.
وتابع “وقد انتهجت في أثناء إعدادي للكتاب في سبيل ترتيب مادته بعد تفريغها من الأشرطة، والانتهاء من تدقيقها تدقيقا منهجيا يسعى إلى ترتيبها حسب الموضوعات، وتتبع التسلسل التاريخي للأحداث، أو أولوية ترتيب موادها حسب أهميتها وفق منهجية الباحث، سواء ما يتعلق منها بالوقائع والأحداث التي ذكرها الرواة، أو ما يتعلق بالمضمون والموضوع، وكان هذا على مرحلتين؛ الأولى: كنت بعد أن أنتهي من تفريغ محتوى كل شريط، وتدقيق مادته، أقوم بترتيب المعلومات حسب المواضيع، بعد انتهاء الباحث الكلي من إعداد المواد والمعلومات، صنف المواد حسب الموضوعات التراثية الجزئية، التي جاءت حسب التسلسل الموجود في فهرس المعلومات”.
كما تحدث العساف عن أبرز الصعوبات التي واجهته في هذا العمل وهي “التسجيلات لم تكن واضحة، وطغى التشويش عليها، الأمر الذي اضطرني لإعادة الاستماع إليها عدة مرات؛ كي أعثر على النص المفقود نتيجة عدم الوضوح، وقد توصلت إليه بعد جهد وصبر كبيرين، وأن بعض معدي المقابلات كانوا غير مؤهلين، وغير متخصصين بجمع الرواية الشفهية وحفظها؛ إذ يبدو من أسئلة المقابلات أنهم يفتقرون إلى المعرفة العميقة بالتراث الأردني، أو التاريخ الوطني، ويظهر هذا جليا من خلال الأسئلة والموضوعات التي يطلبون من الرواة الحديث عنها؛ ما أدى إلى نقص في المعلومات المأخوذة من قبل الراوي”، مبينا أن ذاكرة الرواة غنية بالمعلومات عن التاريخ والتراث الشفوي الأردني، لا سيما أنهم كانوا معاصرين للأحداث التاريخية، وهم من تربوا على العادات والتقاليد الأردنية الأصيلة التي يتحدثون عنها.
ويرى العساف أن حرص المجتمعات والأمم على إعطاء التراث الشعبي قيمة إيجابية لائقة، يعني إغناء قيمته الجمعية، وتقوية الشعور الذي يعبر عن حضور أمة ما، حضورا وطنيا يجسد هويتها، ويكمل حضورها بأصالة تراثها الذي هو ثمرة جهود الأجداد، وإذا كان على هذه الأمة أن يبقى ذكرها بين الأمم عبر التاريخ، فليس لها إلا التمسك بأصالتها، وعنوان ذلك التراث الحي، الممتد من أجيال الأجداد إلى أجيال الأحفاد استمرارا في الحياة، عندئذ تصبح وظيفة التراث هي الحفاظ على كيان الأمة، وضمان بقائها واستمرارها، وحضورها الثقافي والحضاري بين الأمم.
ويشير المؤلف إلى أن اهتمام الأمم الحية والفاعلة في التاريخ بالحفاظ على مكانة لافتة لتراثها الوطني لدى شعوبها، على أساس أن هذا التراث يبقى معبرا عن شخصية المجتمع الحضارية والثقافية والتاريخية، ومجسدا لإرادته في الاستمرار والعطاء من خلال التواصل بين الأجيال، وكذلك من خلال الانفتاح على تراث الآخرين، الأمر الذي يشعر أفراد المجتمع بأنهم ينتمون إلى جيل هذا التراث الذي يجلونه؛ بوصفه معبرا عن شخصية أسلافهم، مثلما أنه يكسبهم الشعور بأنهم يمثلون امتدادا طبيعيا لهؤلاء الأسلاف، فينمو لديهم الشعور بالانتماء والفخر والاعتزاز، كما أنهم يحرصون على استمراره واستذكاره وممارسته، والاهتمام بكتابته وتوثيقه ونشره؛ لتعريف الأجيال اللاحقة به.
وخلص العساف إلى أن تراثنا الوطني الأردني الممتد يحتويه على الثراء والاغتناء، وانطلاقا من المكانة التي يتبوأها في وجدان الأردنيين النفسي والتاريخي والوطني، فقد أولت وزارة الثقافة اهتمامها اللافت بهذا الحقل المعرفي المتصل بالتاريخ الوطني الأردني، فأخذت -وهي الجهة الرسمية التي أنيطت بها مهمة الحفاظ على الثقافة والفكر والتراث- بمبادرة الشروع بتحقيق وإصدار دراسات بحثية موثقة ودقيقة، تشمل مناحي التراث الأردني وحقوله المختلفة؛ بهدف حفظه والحؤول دون دخوله طي النسيان.
عزيزة علي/ الغد
التعليقات مغلقة.