مئوية الدولة الأردنية…عهد الإمارة (1921-1946م) // د. منصور محمد الهزايمة (2)
قضت معركة ميسلون غربي دمشق في 24 تموز عام (1920م) على حلم الدولة العربية السورية، وغادرها الملك فيصل إلى فلسطين في أب من نفس العام، أمّا شرق الأردن آنذاك فقد كان مقسوما إلى ثلاثة ألوية؛ شمالي مركزه درعا، ووسط مركزه السلط، وجنوبي ومركزه الكرك، وبقيت المنطقة تعاني فراغا سياسيا، وفوضى عارمة، يسودها الغزو بين القبائل، والغارات التي لا تنتهي على الفلاحين، بجانب الإتاوات التي تفرضها القبائل المقيمة والمتحركة، ولا توجد قوات من الدرك تكفي لحفظ الأمن وترسيخ النظام.
أنهت معركة ميسلون المسألة السورية، دون أن تمتد أثارها إلى شرق الأردن، وبنفس الوقت كانت المنطقة خالية من القوات البريطانية، لذلك استمرت حالة الفوضى في المنطقة، لغياب جميع ركائز الدولة ذات السيادة؛ الحكومة، القانون، الجيش، وقوات الدرك.
بعد تطورات سورية بدأ حراك سياسي محموم، فدعت الملك فيصل إلى لندن، حيث اجتمع بتشرتشل وزير المستعمرات، وتم الاتفاق معه على منح العراق وشرق الأردن ما يشبه الحكم الذاتي، وبذات الوقت قامت ثورة في العراق، سارعت بريطانيا إلى قمعها، خشيةً من انتشار عدواها إلى باقي الأقطار العربية.
في 20 أب (1920م) بادر المندوب السامي البريطاني في فلسطين هربرت صمويل وهو سياسي بريطاني من أصل يهودي بالتواصل مع الملك فيصل، ومع رجالات المنطقة من جرش وعجلون حتى الكرك، بهدف إقامة إدارة بريطانية مستقلة عن تلك التي في فلسطين، وبهيمنة تامة من المستشارين الانجليز.
حين انتقل الضابط سومرست المكلف بعمله الجديد من فلسطين إلى اربد، قابله وفد من أهلها في بلدة أم قيس، وعرضوا عليه مطالبهم التي كان أبرزها؛ قيام حكومة عربية برئاسة أمير عربي، وانتخاب مجلس تشريعي يسن القوانين، وينظّم الشأن الداخلي، والاستقلال عن حكومة الانتداب في فلسطين، ومنع الهجرة اليهودية إلى البلاد، وتحريم بيع الأرض لهم، وإنشاء جيش وطني، يحفظ الأمن والنظام، وانضمام شرق الأردن إلى سورية حال تحقيق الوحدة.
شرع المستشارون الانجليز بتشكيل الحكومات المحلية، حظيت اربد وحدها بست حكومات، أهمها حكومة علي خلقي الشرايري، وكان المستشارون يلعبون على الحزازيات القبلية، والخلافات العشائرية، لحفظ الأمن وتثبيت السيطرة لهم من خلال التفرقة، وقامت حكومة عمان برئاسة مظهر أرسلان، وكذلك حكومة مؤاب الكركية بإشراف أحد الضباط الانجليز، لكن هذه الحكومات جميعها لم تنجح في شيء، ولم تحفظ الأمن، بل بقيت الغارات في أرجاء المنطقة شائعة، ويرجع سبب ذلك إلى أن هذه الحكومات لم تتمتع في الواقع بأية مساندة، فليس لها صفة دولية، ولا يوجد لها ميزانية، ورئيس الحكومة هو شيخ العشيرة القوية، وبالنهاية تأتمر بإمرة ضابط بريطاني، أي أن أدوات السيادة غائبة تماما، فكانت الفوضى هي العنوان.
في 21 تشرين 2 (1920م) وصل الأمير عبد الله إلى معان، التابعة حتى الأن للمملكة الحجازية، في حملة تستهدف تحرير سورية من الفرنسيين، غضباً لما حصل مع الملك فيصل بإخراجه منها بالقوة، كان جيش الأمير لا يتعدّى ألفي رجل، وبدأ على الفور التواصل مع رجالات العرب من شتى الأقطار السورية والعراق، وفي الخامس من كانون 1 من نفس العام وجّه الأمير نداءً إلى كل العرب للالتحاق بجيشه في معان، بصفته نائبا لملك سورية، لكن التجاوب كان ضعيفا، بسبب مراقبة الحدود، لمنع الوصول إلى معان، ولتحديد حركة الأمير التي أُعتبرت تجاوزا على اتفاق سايكس – بيكو.
يوم 14 شباط (1921م) أنشئت دائرة الشرق الأوسط، التابعة لوزارة المستعمرات، ومهمتها إدارة الانتداب في البلاد التابعة لبريطانيا العظمى، لكن كان هناك معارضة داخلية للاحتلال العسكري في العراق وفلسطين، حيث أصبح ذلك الاحتلال مكلفا للإمبراطورية بشكل لا يطاق.
عُقد مؤتمر القاهرة يوم 21أذار(1921م) لمناقشة أوضاع المنطقة، حضره أركان النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط، بهدف تخفيض كلفة التواجد العسكري في المنطقة، واستقر الرأي على استخدام القواعد الجوية والطيران وحده، للمحافظة على الأمن والنظام.
أثناء انعقاد المؤتمر، وصلت الأخبار بوصول الأمير عبد الله مع جيش إلى معان، بنية التوجه إلى سورية لمحاربة الفرنسيين، وبعد التداول حول الطارئ الجديد طُرح رأيان؛ إمّا إخراجه من معان بالقوة، أو التفاهم معه على حكم البلاد، فكان الخيار الثاني هو الأقل كلفةً، وأيّده أقوى نافذين في المؤتمر تشرتشل ولورنس، كما اقترح تشرتشل وزير المستعمرات على رئيس حكومته تعديل صك الانتداب، لاستثناء شرق الأردن من أحكام وعد بلفور، فتم ذلك.
في 27 أذار (1921م) أجرى الأمير عبدالله محادثات في القدس مع المندوب السامي، بتكليف من ملك الحجاز، وكان قد أُفهم قبلها باستحالة عودة الملك فيصل لسورية، لكن يمكن ترشيحه لعرش العراق، وبقاء الأمير عبد الله في شرق الأردن، على أن يتّبع نهجا مُهادنا تجاه الفرنسيين، وأن يتخلى عن فكرة الدولة السورية الموحدة، وعاصمتها دمشق، وافق الأمير، وبهذا تقررّ تشكيل حكومة وطنية بقيادته في شرق الأردن، تساعدها بريطانيا في حفظ النظام، وهنا بدا أن الأمير والشريف ينهجان نهجا واقعيا من خلال القناعة أنه لم يعد ممكنا تحرير سورية بمعارضة القوة الأولى في العالم، فحطّت الأحلام العربية على أرض الواقع.
في 11نيسان (1921م) تشكلت أول حكومة شرق أردنية مركزية في عمّان، برئاسة السوري رشيد طليع، لكن بمسمّى الكاتب الإداري، ومعظم أعضاءها من حزب الاستقلال، وريث جمعية العرب الفتاة، التي حُلّت في عهد فيصل، وكان هولاء من الناشطين المطاردين بعد معركة ميسلون، لكنّ الحلم العربي ما زال يدغدغهم، وتكوّنت من أردني واحد، فلسطيني واحد، وأربعة سوريين، كانت هذه الإدارة عمليا تُدار من قِبل العديد من المستشارين الانجليز، في جميع أعمالها، بل يصف عارف العارف المؤرخ الفلسطيني، والمنتدب للعمل مع حكومة شرق الأردن، تدخل المستشارين الإنجليز بأدق التفاصيل، من مثل تنقلات الموظفين، لدرجة أن الأمير كان محبطا تماما.
في 23 تموز(1921م) تعرض حاكم سورية العسكري الجنرال غورو لمحاولة اغتيال، هرب المتهمون إلى شرق الأردن، طلبت بريطانيا من الأمير تسليمهم بناءً على طلب الجنرال، لكنه رفض ذلك، وحدثت أزمة أطاحت بإدارة رشيد طليع في 31أب من العام ذاته، ليخلفه السوري مظهر أرسلان تحت مسمى جديد وهو رئيس مجلس المستشارين، وأقيل كل من له علاقة بحزب الاستقلال.
كانت هذه الأزمة الكبيرة كفيلة بإفهام الحكومة والأمير أن الأمور ليست بيدهم، بل فكرّ الأمير بزيارة لندن للتخلي عن الحكم في شرق الأردن، حيث أن معالجة الأزمة بهذه الصورة قد يظهر عكس الحال بأن الهاشميين يمثلون القومية العربية، وأمناء الاستقلال العربي.
وصل لورنس العرب وسنيدهم في ثورتهم إلى عمّان، للوقوف على نية الأمير، وقام بإجراءات عديدة، فعزل العديد من الموظفين الانجليز، وأوصى باستقلال حكومة شرق الأردن عن حكومة فلسطين، وفض التداخل بين الإدارتين، واقترح زيادة القوة الجوية لحفظ النظام، وتولى بنفسه وظيفة المعتمد البريطاني في عمّان، كما اقترح على حكومته تشجيع استمرار إدارة الأمير، واستثناء شرق الأردن من وعد بلفور، وتخفيض مخصصات الأمير المالية، والضغط عليه لتسليم المطلوبين في محاولة اغتيال الجنرال غورو، عارض المندوب السامي البريطاني في فلسطين مقترحات لورنس، ودعا لتسهيل مغادرة الأمير شرق الأردن، لكنّ تشرتشل تبنى رأي لورنس.
كان مؤتمر الصلح الذي انعقد يوم 28 حزيران (1919م) في باريس، قد أقر نظام الانتداب بمعنى وصاية عصبة الأمم من خلال الدول الكبرى على الشعوب المتخلفة، وساقه من مُدخلٍ أخلاقي” إن خير هذه الشعوب وتقدمها يعتبر وديعة مقدسة في عنق الحضارة”، بحيث يتدرج هذا الانتداب تبعا لدرجة الرقي أو التخلف.
في 25 نيسان (1920م) أقر المجلس الأعلى لعصبة الأمم الانتداب على العراق وشرق الأردن، لكنّه كلّف الدول الكبرى بصياغة صك الانتداب على فلسطين، باعتبار أن لها وضعا خاصا يتضمن المسألة اليهودية، وفي 24تموز من العام ذاته صِيغ الصك على فلسطين، مع مادة منه تستثني شرق الأردن من وعد بلفور، على أن يكون الانتداب عليه مطابقا لما هو في فلسطين، اعتقد الانجليز أنهم بذلك يرضون العرب لكنّ هولاء رفضوه بشدة واعتبروه تحايلا من الحلفاء لتجزئة بلادهم، وتثبيت الاستعمار بمسميات جديدة، بل عزموا على مقاومته.
قبلت عصبة الأمم صك الانتداب على شرق الأردن، الذي تقدمت به بريطانيا في 16 أيلول (1922م)، وفي تشرين 1 من العام نفسه زار الأمير لندن، وقدّم عددا من المطالب كان أبرزها؛ استقلال شرق الأردن بشكل تام، وعقد معاهدة مع لندن تضمن هذا الاستقلال، وترسيم الحدود مع الجوار، وطالب بميناء على البحر الأبيض المتوسط، لكن صادف أن أُطيح بالحكومة البريطانية بأسباب داخلية، مما أسفر عن تأجيل المفاوضات، وعدم تحقيق الزيارة غرضها الرئيس، أي الاستقلال بضمان معاهدة.
استقالت حكومة الركابي عقب زيارة لندن، وتشكلت حكومة مظهر أرسلان في 23 شباط (1922م)، وكُلفت الحكومة الجديدة باستئناف المفاوضات للتوصل لعقد معاهدة شاملة تضمن الاستقلال، لم توفق بدورها إلى ذلك، لكن الحكومة البريطانية أبقت الباب مواربا لمزيد من المفاوضات.
في 25أيار (1923م) كُلّف هربرت صمويل المندوب السامي في فلسطين وهو سياسي بريطاني من أصل يهودي بزيارة عمّان، وتبليغ الموافقة المبدئية على استقلال شرق الأردن بقيادة الأمير، بشرط عدم التعارض مع التزامات الإمبراطورية العظمى تجاه المجتمع الدولي.
سأحاول منذ الأن رص الكلمات والضغط عليها لتعكس أحداثا كثيرة بكلمات قليلة، خاصةً وأن الحديث يمس جوانب الإدارة المختلفة، قامت حكومة من خمسة أعضاء باسم مجلس المستشارين، حرص الأمير على تكييف الإدارة مع الوضع الجديد، حتى من حيث التسميات، فمجلس المستشارين تحول إلى مجلس الوكلاء، ثم إلى مجلس النظار، لكنّ الكلمة العليا ما زالت للمندوب السامي في فلسطين، وممثله المعتمد البريطاني في عمّان، وفي عام (1926م) تحول مجلس النظار إلى المجلس التنفيذي، لكن بقي حزب الاستقلال رافدا أساسيا لأعضاء الحكومة الخمسة ، ومن المناصرين للثورة السورية، ممّا استفز الانجليز فهددّوا الأمير بإعادة الأمور إلى نصابها، فأقال الاستقلاليين، وغادر كثير منهم البلاد، فاستقدم الانجليز موظفين من الحكومة في فلسطين من انجليز وعرب فلسطينيين، استمر هذا التقليد في الإعارة حتى عام (1939م)، عندما اقتصرت الإعارة على الموظفين الانجليز، ليبقى القرار دائما بيد المعتمد البريطاني فلا يُعيّن وزير أو مدير إلاّ بمشورته.
أُلغيت نيابة العشائر عام (1924م)، وفي أيلول (1925م) صدر قانون العشائر، وتشكلت محاكم خاصة بها، وفي نسيان (1926م) أُعيدت نيابة العشائر بمسمى جديد هو مأمور العشائر وأُلحق بمجلس النظار، كما صدر قانون يُنظم شؤون الموظفين في الخامس من كانون 1 (1926م).
في 11تشرين 1 (1927م) صدر قانون شرق أردني جديد، ألغى القانون العثماني القديم (1330م)، وأعطى البلاد اسم “إمارة شرقي الأردن”، وقسّم البلاد إلى أربعة ألوية مع ما يتبعها من أقضية ونواحٍ؛ لواء عجلون ومركزه مدينة اربد، ولواء البلقاء ومركزه مدينة السلط، ولواء الكرك ومركزه مدينة الكرك، ولواء معان ومركزه مدينة معان، ويُشار هنا أن هذا التقسيم الجديد كان بعد ضم ولاية معان والعقبة رسميا إلى شرقي الأردن في 25 حزيران (1925م)، لكن ما زالت أسماء التقسيمات وأسماء حكامها عثمانية تبعا للقانون العثماني المذكور آنفا.
يتبع…
الدوحة – قطر
التعليقات مغلقة.