الأستاذ الجامعي الذي نريد // د. حفظي اشتية
=
تتداعى إلى أذهاننا ذكريات عتيقة عمّا شهدناه وعايشناه في مراحل دراستنا منذ دخلنا هيابين عتبة المدرسة الأولى إلى أن تخرجنا من الجامعات، ويتنقل الخيال بين أطياف مَن علمونا، فيغيب كثير منهم سريعا في أعماق اللاشعور ويطويه النسيان، بينما تصمد فئة قليلة في الجبهة الأمامية الحية للشعور، فنرى أنفسنا نستحضر مواقفهم ومبادئهم ومياسمهم وأحاديثهم وتعاليمهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم …إلخ ولا شك أن ذلك يعود إلى كريم صفات وحميد أخلاق تحلَّوا بها، فأثرت فينا وعجز الزمان عن محو آثارها.
نستقطر شيئا من تلك الذكريات، ونحاول رسم صورة الأستاذ الجامعي الذي ينشئ الجيل السويّ، ويبني الوطن السامي :
ــ إنه متفوق في دراسته، متمكن من مادته، قد وهب نفسه لعلمه، لإدراكه أنّ العلم لا يؤتيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك.
ــ إنه مؤمن بأهمية مهنته، مقتنع بقدسيتها، يتذكر أن الأنبياء المكرمين معلمون، وأن القادة العظام مربّون، وأن مهنة التعليم أنبل مهنة، وأقدس وظيفة، وأخطر مهمة، بها نحكم على الجيل كله بالضياع والفشل، أو نأخذ بيده ارتقاء نحو العلا وصنع الأمل.
ــ إنه واثق من نفسه، منمّ باستمرار لمعارفه وثقافته وقدراته، ملمّ بمعطيات الماضي ومستجدات الحاضر، ملتزم بتعاليم دينه، محب لوطنه وقومه وأمته، واثق من النشء الذي يعلمه، موقن أن فيهم الخير الكامن الذي يحتاج إلى من يبعثه من مرقده، وينميه ويعظمه ويوجهه نحو غايته.
ــ إنه بعيد عن الجمود في طرائق تدريسه، يجرب أسلوبا ويرصد الأثر، فإن لم تظهر النتيجة المرضية بادر سريعا الى التغيير. يدرك الفروق الفردية بين البشر، ويتلمّس مكامن رغبات طلابه، ومراكز توقّد دافعياتهم، فيستثير أقصى طاقاتهم في الفهم، ويُذْكي حماستهم للمعرفة والعلم.
ــ إنه حريص على نظافته، وحسن هندامه وأناقته، له هيبة تُعليه عن كل شبهة، وفيه رحمة تُدنيه من كل روح، بعيد المنال، قريب النوال، يُغضي حياء، ويُغضَى من مهابته، سمح الخلق، سنيّ المنزلة.
ــ إنه عادل في علاقاته مع طلابه، لا يُقرّب أحدا لإربة، ولا يُبعد آخر لنكاية، يقف من الجميع على مسافة واحدة، يقصّرها أو يطيلها نشاط الطالب، وتفاعله الصفي، ومشاركاته الفاعلة وتفوقه الدراسي، وسموّه الأخلاقي. عادل في علاماته، يضع مخافة الله بين عينيه قبل أن يرصد أية علامة وتمرّ من بين يديه، يستذكر أنه قاضٍ، وأنّ العلامة حكم تترتب عليه إدانة أو براءة، بها يرفع، وبها يضع، فيها إعلاء شأن وفتح آفاق، أو خفض قدر وإغلاق آمال .
ــ إنه ملتزم بأوقات محاضراته، يضبط طلابه ساعاتهم على موعد دخوله إلى القاعة، يستثمر كل دقيقة من وقت المحاضرة لإفادتهم، لا يضيع أوقاتهم فيما لا يهمهم، ولا يستعرض مستظرفا حكاياته الخاصة التي لا تعنيهم. لا يتطاول عليهم، ولا يتيه كبرا ويتنافخ سلطانا، كما أنه لا يكون هزأة ومادة خصبة لفكاهاتهم وتندّرهم ومحاكاتهم الهزلية، يضبط موقفه الصفي بحزم وهيبة، لا يتيح أدنى فرصة لعبث عابث، وبمودة ورحمة فيشعر الجميع بالأمان التام ووافر الاحترام.
ــ إنه خطيب مفوّه، نبيه فطن، ينغّم صوته وفق الموقف، يبتعد عن الرتابة المملة، ينظر في عيون طلابه جميعا، يخص كلّأ منهم برعايته، ويشعره بنظراته أنه يشرح له، وأن أمره يعنيه، وأنه يبذل كل هذا الجهد لخدمته. يعرف أسماء طلابه ــ ما أمكن ــ ويناديهم بها ليَشعر كل منهم أنّ له عند أستاذه مكانة ومكانا، واهتماما خاصا مكينا.
ــ إنه خبير في تقييم طلابه، وإعداد اختباراته : يختبرهم فيما علّمهم، لا يستقوي عليهم فيستعرض عضلاته بأسئلة جوفاء عويصة ملتوية، ولا يتصنّع التودد إليهم بأسئلة ساذجة مكشوفة مبتذلة، وإذا صحّح أوراقهم أطْلعهم عليها، وناقش إجاباتهم، وأوصلهم إلى الطمأنينة التامة بتحقق العدالة.
هذا قبس من سمات الأستاذ الجامعي المنشود، ويمكن أن يقاس عليها المزيد والمزيد.
وأختم بموقفين واقعيين يتجلى فيهما المراد بالسلب أو الإيجاب :
ــ شاهدت مؤخرا لقطة مصورة منشورة لحامل دكتوراة يتظلّم من التأخر في تعيينه، ويحرق شهاداته احتجاجا، وهو يقول : أنا أحمل شهادة الدكتوراة في اللَّغويات ( بفتح اللام )، والدولة لا تقدر علماءها، مستشهدا بقوله تعالى : ” إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ “، لاحنا بضم آخر لفظ الجلالة بدل الفتح، وما أظنه حمل بذلك الخشية على معنى التوقير، أو اصطاد رأي الزمخشري في هذه القراءة الشاذة.
فإذا كان صاحبنا لا يفرق بين اللغة واللغو، وإذا كان لا يفهم السرّ البلاغي في تقديم المفعول به على الفاعل في الآية القرآنية، فماذا نتوقع من إبداعه غدا في الغرفة الصفية؟!
ــ أما الموقف الثاني فلعله يثير الشجن، ويؤكد المقصد في هذا الصدد : ورد في بعض المواقع الإخبارية على لسان أحد المعلمين، أنه كان يقود سيارته، فاستوقفه شابّ من الأمن العام، وأمعن فيه النظر من وراء نظارته الشمسية وهو يتفحص رخصه، وقال له: أنت معلم ومربٍّ فاضل، لكنك مخالف بعدم ربط حزام الأمان. رد المعلم : نعم، أنا مخالف. حرر الشرطي المخالفة، ثم طلب إلى المعلم النزول من المركبة، فعانقه وقبل رأسه، وقال : أنا أحد طلابك، غششت مرة أنا وابنك في أحد امتحاناتك، فعاقبتنا معا بعدالة، ووضعت لكل منا صفرا. ومنذ ذلك الحين قدّست النظام، والتزمت بتطبيقه حتى على ابني.
بكى المعلم من شدة تأثره أنّ حسن تربيته حفر عميقا في فكر أحد طلابه، وأصبح له منهج حياة، ومنعت كبرياء الزيّ الرسمي دموعَ الشرطي من الانهمار، لكنه لم يمنع الوفاء للمعلم والاقتداء به والانبهار.
التعليقات مغلقة.