“الهاشمية وقرية بلا سقوف” للزيودي.. دراسة اجتماعية اقتصادية للرواد الأوائل
ضمن سلسلة فكر ومعرفة؛ صدر عن وزارة الثقافة للمؤلف محمود الزيودي كتاب بعنوان “الهاشمية وقرية بلا سقوف”، وهو دراسة اجتماعية اقتصادية ثقافية للرواد الأوائل الذين أسسوا بلدة الهاشمية.
وتحت عنوان “مدخل”؛ يقول الزيودي إنه قبل إنشاء مصفاة البترول الأردنية كانت الأراضي المحيطة بها خالية من السكان المقيمين. تعيش فيها بعض قبائل بني حسن في فصل الربيع مع أغنامها لمدة شهرين ثم تعود إلى أراضي الشفا في غريسا والزنية وبلعما وصروت والعالوك، تمر بهذه المنطقة الطرق الترابية التي تؤدي إلى مدينة الزرقاء حيث الأسواق الناشئة في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي.
ويضيف في العام 1958، بنى إرشيد الصالح الزغيريبين من قبيلة الزيود أول بيت قروي غربي منطقة العزيلاء، وهي التلة الصغيرة على نهاية مرتفع بين جر وادي الظليل الحالي وبداية بلدة الهاشمية الحالية.
وعندما بدأ حفر أساسات البناء لمصفاة البترول في العام 1959، بدأ أوائل العمال من قبيلة الزيود وبعض قبائل بني حسن العمل في المشروع منذ بدياته، ويستعرض المؤلف في تفاصيل الكتاب الايدي العاملة من قبائل بني حسن خارج المهن التقليدية في زراعة الأراضي وتربية المواشي، ولأن المسافة بعيدة بين المصفاة وأم الصليح وغريسا، والطرق ترابية، فقد سكن أوائل العمال في بيوت الشعر التقليدية، ثم بنوا منازل ثابتة من لبن التراب حيث أصبحوا قرب مكان عملهم في المصفاة.
وكان الزيودي من أوائل المؤسسين لبلدة الهاشمية الحالية، لذلك اقتصر البحث على التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لهذه القبيلة، وهو لا يختلف عن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لقبيلة بني حسن وقبائل البلقاء بشكل عام.
ويبين الزيودي أن الدراسة تتحدث ايضا عن الهجرة من الريف إلى حقول العمل الحديث في المصانع “كما هو الحال في مصفاة البترول”، ما أدت إلى تفريغ قرية غريسا من سكانها الذين لم يجدوا أخف من أبواب ونوافذ الخشب بالإضافة إلى القصيب “البوص”، وخشب السقوف ليحملوه في هجرتهم، وأصبحت القرية مثالا عالميا على الهجرة من الريف إلى المدينة، ولعلها القرية العربية التي خلت من سكانها لذلك السبب.
ويشير المؤلف إلى أن القرية الأردنية عانت من الخراب بهجرة السكان بسبب الأوبئة وغزوات البدو التي دمرت الكروم والمحاصيل الحقلية، أما غريسا فهي حالة نادرة جعلت الكاتب يهتم بدراسة تاريخها وتاريخ سكانها، وقد أثبتت بعض الوثائق كما كتبها باللهجة الشعبية الأردنية المعاصرة في برنامج حكايا أردنية الذي اعتمد فيه على نصوصه وما قرأ وما سمع ورأى في حياته.
ويقول الزيودي “إن قرية غريسة أو غريسا تقع على الطريق التجاري لمملكة الأنباط المؤدي من البتراء إلى دمشق وتدمر، ولابد أنها إحدى محطات الاستراحة والحراسة على هذا الطريق، فقطع الفخار المتناثرة بين خرائبها تؤكد هويتها النبطية، وموقعها المرتفع أنها تشكل مع بلعما وحيانات مراكز مراقبة للصحراء الشرقية خشية غارات البدو على محطات القوافل التجارية والزروع في مناطق الشفا الجبلية، فقوافل الأنباط القادمة من البتراء تخرج من عمان إلى الزرقاء ثم خو مرورا بالخربة السمرا وأم الجمال ودير الكهف حتى بصرى.
ويشير الزيودي إلى أن غريسا تقع على تلة مرتفعة يرى الناظر منها منطقة الزرقاء حتى بيرين والعالوك غربا ثم مشاريق الصحراء حتى مناطق الخربة السمراء وشمالها، مما يشكل مركز مراقبة لحركة القوافل التجارية وحركة البدو في الصحراء المجاورة، ولابد أن اختيار مواقعها كان لهذه الغاية، فهي بعيدة عن مصادر المياه الجارية في السخنة وسيل الزرقاء.
كما تشير خرائط المؤرخين وعلماء الآثار إلى أن طريق تجارة الأنباط يخرج من عمان “عمون”، إلى جرش ثم دمشق بحيث يحاذي مجرى نهر الزرقاء ثم القنية التي تعد من قرى الزيود وهي أقرب إلى جرش من أي قرية أخرى.
ولأن الأنباط اشتهروا بتقنية الحصاد المائي من الأمطار؛ فإننا نلاحظ وجود بعض الآبار النبطية في غريسا، كما هو حال بئر الحمام إلى الغرب من القرية، وبئر الشمالات في منطقة الحوطان تحت القرية من الجهة الجنوبية، كذلك القبور المنحوتة في الصخر على طريقة الأنباط الذين اهتموا بالقبور لدرجة أنهم ينحتونها قبل موتهم، وذلك كما في أغلب الدراسات والحفريات عن آثارهم.
وتبدو التلال والسهول حول القرية معمورة زراعيا منذ زمن بعيد، ففي سفح جبل الطي الذي يقابل القرية من الجنوب معصرة حجرية تماثل معاصر الأنباط في وادي الحسا، والمعروف أن قرى الأنباط وحامياتهم تكتفي ذاتيا من زراعة الحبوب والكروم، ويتحول الفلاحون في حالات الطوارئ والخطر إلى فرسان مقاتلين، ولعل غريسا ازدهرت زمن ملك الأنباط “70-106م”، الذي اتخذ من بصرى عاصمة لمملكته قبل قيام الإمبراطور الروماني تراجان بضم المملكة عسكريا سنة 106م، وأسس الولاية العربية الرومانية.
بعد زوال دولة الأنباط استغل الرومان المواقع نفسها للأهداف نفسها بما في ذلك تقنية الأنباط المائية، فالآبار المتناثرة حول غريسة تؤكد على ذلك، ولعل الحفريات الأثرية في المستقبل تكشف عن تاريخ القرية، فمعالم الأبنية الحجرية البارزة تدل على مشروع قلعة حصينة، وهناك آثار لقبور نبطية مشابهة للقبور المحفورة في البتراء والحجر “مدائن صالح”، وأم الجمال، والمعصرة الباقية آثارها في جبل الطي المقابل للقرية من الجهة الجنوبية تدل على نهضة زراعية متميزة، وتدل المنحوتات الحجرية التي بنى الزيود قريتهم غريسا على انقاضها على فن كورنثي لم تستكشفه الحفريات بعد.
في زمن الدولة الأموية بقي الطريق الشرقي في درعا إلى عمان مرورا ببلعما وغريسا من طرق الاتصال بين العاصمة دمشق ومدينة عمان، الذي اهتم به الأمويون وأنشأوا فيه معملا لضرب النقود استمر طوال زمن بني أمية، دلت الحفريات على أن أغلب نقود عمان ضربت في زمن الخليفة عبدالملك ابن مروان، وأن كل درهم ودينار بين يدي الناس زمن الأمويين كان مصنوعا في عمان.
وحينما استولى العباسيون على الخلافة في العام 750م، أبطلوا المرافق كلها التي بناها الأمويون ونقلوا العاصمة من دمشق إلى بغداد، تراجعت عمان والمناطق المحيطة بها حتى قال الشاعر الخطيم العقيلي فيها “أعوذ بربي أن أرى الشام بعدها/وعمان ما نمى الحمام وغردا/ نذاك الذي استنكرت يا أم مالك/ فأصبحت منه شاحب اللون أسودا”.
وفي زمن المماليك لعبت البلقاء دورا كبيرا في الحشد لتحرير القدس من الإفرنج، وكانت زيزيا أحد مراكز حشد جيوش الناصر صلاح الدين الأيوبي ورافقت بعض قبائل البلقاء صلاح الدين، ومنها بعض قبائل بني حسن التي أسكنها صلاح الدين في بعض مدن فلسطين بعد التحرير، كما هو حال العموش والزيود في جبل نابلس، والمشاقبة في ضواحي القدس الشريف، ولم يزل فرع من قبيلة الزيود يقطن بلدة سيلة الحارثية في جبل نابلس وفي بلدة شفا عمرو في المثلث.
عزيزة علي/ الغد
التعليقات مغلقة.