مسيرةُ الانتهاكاتِ الفاضحة وتظاهرةُ الاحتلالِ الغادرة/د. مصطفى يوسف اللداوي
نها مسيرة الكيان الصهيوني كله لا المستوطنين المتطرفين وحدهم، وهي مظاهرة الغاصبين كلهم لا المتشددين دون غيرهم، وهي مسيرة رئيس حكومة الكيان نفسه لا اليمين الصهيوني وحده، وهي انتهاكات سلطات الاحتلال الرسمية لا تصرفات الدهماء العفوية، وهي حال الاحتلال وحقيقته، وطبيعته وسجيته، وفطرته وطويته، وهي صورته الظاهرة وعقيدته الخفية، وهي سياسة الحكومة ومواقف المعارضة، وهي التخطيط القديم والأحلام الدائمة، وهي الأماني المريضة والطموحات المستحيلة، التي ستقتل أصحابها وستفكك ملكهم، إنهم اليهود في أصلهم، والصهاينة في فعلهم، والأعداء بكل أشكالهم، إنهم الشر المطلق والشيطان الأكبر، الذي لا يأتي بخير ولا يأمر إلا بشرٍ.
أسفر العدو في مسيرته العدوانية بوقاحةٍ وخبثٍ، وحقدٍ وكرهٍ، وتحدي ومواجهة، سلطةً وعامةً، وعلمانيين ومتدينين، وساسةً وأمنيين، ومفكرين وإعلاميين، ومدنيين وعسكريين، عن وجهه الخبيث ونواياه العدوانية، وكشف عن وجهه الذي نعرفه وعدوانه الذي نخبره، ليظهر في أبشع صوره، ويتجلى في أسوأ مظاهره، ويداهم بكل قوته، ويهاجم بأعتى أسلحته، ويعتدي على كل شيءٍ كثورٍ هائجٍ وفيلٍ أعمى، لا يميز بين رجلٍ وامرأة، ولا بين شابٍ وشيخٍ، أو طفلٍ وصبي، ولا بين سليمٍ ومريضٍ، أو صحيحٍ وقعيدٍ.
صب العدو الإسرائيلي جام غضبه، على كل ما يمس الفلسطينيين ويتعلق بهم، ونفث سمه ونفخ حقده على كل ما يخص المسلمين ويؤمنون به، ولم يكتف بالاعتداء على الشبان وضربهم، والرجال واعتقالهم، والصبية وترويعهم، بل امتدت أيديهم الآثمة إلى النساء الحرائر، الماجدات المرابطات، المصليات الداعيات، الطاهرات الشريفات، العفيفات المصونات، فاعتدى عليهن ضرباً وشتماً، ودفعاً وركلاً، فآذاهن في حجابهن، وتطاول على كرامتهن، واجتمع جنوده كالكلاب عليهن، ينهشون ثيابهن، ويعتدون على شرفهن، في مشاهدٍ يندى لها جبين الإنسان، ويتبرأ منها البشر، ويدينها الأحرار، ويحاسب عليها الأشراف.
رأينا جنود الاحتلال وشرطته، يخوضون في باحات المسجد الأقصى بأقدامهم الثقيلة النجسة، ورائحتهم الخبيثة المنتنة، وكلماتهم العنصرية المبتذلة، يلاحقون الفلسطينيين دون سببٍ، ويعتدون عليهم دون مبررٍ، اللهم إلا تنفيذاً لسياسة حكومتهم، وتعبيراً عن سوء أخلاقهم، وحقد نفوسهم، وترجمة لئيمة لخبثهم ومكرهم، الذي ظنوه سيثمر نصراً وسيحقق كسباً، ولكن صبر الفلسطينيين وصمودهم، وثباتهم وإصرارهم، جعل جناهم شوكاً، وصَيَّرَ قوتهم عجزاً، وأذاقهم المرَ علقماً.
ورأينا شرطتهم تجوس بخيولها بين المصلين، يشقون جمعهم ويعتدون عليهم، ويضربون من يعترض طريقهم أو يمر من أمامهم، ولا يبالون بمن يضربونه صغيراً كان أو كبيراً، رجلاً كان أو امرأةً، ولا يؤنب ضميرهم أو يخدش إنسانيتهم بأي طريقةٍ ضربوا أو اعتدوا، فهم يطلقون الأعيرة النارية والطلقات المعدنية المغلفة بغلالةٍ مطاطيةٍ، تؤذي أكثر ولا تخفف من أثرها أبداً، ويضربون الفلسطينيين بهراواتٍ غليظةٍ، تكسر العظام وتهشم الرؤوس، وتحدث في الأجساد آلاماً لا تحتمل، وتترك آثاراً تبقى ولا تزول، ولعل وسائل الإعلام قد وثقت ضربهم العنيف وممارساتهم القاسية.
لم تسلم المقدسات من دنس جنود الاحتلال ونجاسة مستوطنيه، إذ خاضوا بأحذيتهم في صحن الحرمين القبلي والصخرة المشرفة، وخلعوا أبوابهما وحطموا آثاثهما، وقلبوا المصاطب وخلعوا الخزائن، وبعثروا الكتب ومزقوا المصاحف، وعاثوا في رحاب المسجدين خراباً، فلم تسلم جدرانهما ومحاريبهما، وسجادهما وأعمدتهما، كما المصلين فيهما والمرابطين في صحنهما، وكأنهم يحقدون على هذا المكان المقدس لدى المسلمين، الذي هو المسجد الأقصى المبارك، ويشعرون أنه يسلبهم هيكلهم ويحرمهم من معبدهم، وأن تدميره يعجل استعادة وبناء هيكلهم المزعوم مكانه، وما علموا أن القدس هي عنوان الصراع، وهي قلب فلسطين، وعروس مدائن العرب والمسلمين، وأن الأقصى في كتاب الله آيةٌ وفي دين المسلمين عقيدة، لا يفرطون فيه كقرآنهم، ولا يتخلون عنه كصلاتهم.
تباهى رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بمسيرة الأعلام اليهودية، وقدم التهنئة لكل من ساهم فيها وسار معها، وتفاخر بأنه لم يخضع كسلفه نتنياهو لحماس وقوى المقاومة الفلسطينية، التي أجبرته على التراجع والانكفاء، وتغيير مسار المسيرة وتبديل برامجها، لكنه تحداها وأصر على منح الترخيص لمنظميها، وسمح لها بعبور الأحياء العربية، والمرور باب العامود، وكلف أكثر من ثلاثة آلاف رجل شرطة وأضعاف عددهم من جنود جيشه، لحفظ الأمن في مدينة القدس، وضمان تيسير المسيرة بسلام، وعدم تعرض المستوطنين لأي خطر، وعلا صوته متبختراً متغطرساً، أن المسيرة نفذت ولم تقوَ القوى الفلسطينية على تعطيلها أو إطلاق الصواريخ لإفشالها.
مضت مسيرة الأعلام الإسرائيلية ولكن المؤامرات الصهيونية لم تتوقف ولن تنتهي، ولن تكون هذه المسيرة الحاقدة هي آخر ما في جعبتهم، فكما رأينا على مدى العقود السبعة الماضية صوراً مختلفة من العدوان الإسرائيلي على شعبنا الفلسطيني وأرضه ومقدساته، فإننا قد نرى المزيد والأسوأ، والأخبث والأقذر.
لكن الجديد الذي لم يدركه العدو بعد، أن الشعب الفلسطيني قد غدا كله مقاومة، وأن أشكال مقاومته أصبحت متعددة ومختلفة، وأنه كما مقاومته المسلحة لن يسمح لسلطات الاحتلال بتمرير مخططاتها وتنفيذ أحلامها، وسيجدون فعلاً لا قولاً أن القدس هي عاصمتنا، وأنها عربية الوجه فلسطينية الهوية إسلامية الحضارة، وأن أعلامنا الفلسطينية ستملأ سماءها وستعلو كل بناياتها، وأن الأقصى سيبقى لنا وحدنا، مسجداً نشد الرحال إليه، وقبلةً أولى نحافظ عليه.
التعليقات مغلقة.