جنايات في بعض الجامعات دون عقوبات/د. حفظي اشتية
نعي جيدا أنّ كثيرا مما يذاع ويتمّ تناقله في وسائل التواصل الاجتماعي، يجب أن يؤخذ بحذر، ويخضع للتدقيق والتوثيق.
ونستوعب جدا أننا يجب أن نحرص على سمعة مؤسساتنا التعليمية، ونعزز الثقة بها لنستقطب الدارسين من الخارج، ونستثمر إلى أبعد مدى يمكن الوصول إليه في التعليم معنويا وماديا .
لكننا في المقابل لا نستطيع التغافل عن أخطاء إدارية وخطايا في سلك التعليم ملأت الدنيا وشغلت الناس، وذاع صيتها في الآفاق إلى الحد الذي سيعدّ فيه إنكارها أو تجاهلها نمطا من النفاق، أو نوعا من الغفلة وضربا من الاستحماق.
كما أننا يجب ألّا نركن إلى تلك الأقلام الواهنة المهزوزة الواهية التي تزّين لتيار الباطل زورا وبهتانا للإبقاء عليه حفاظا على مكاسبها لديه، ومصالحها ومراكزها التي حصلت عليها تزلّفا وتسللا على يديه، فما تمثّل هذه الفئة في حقيقة أمرها إلا مثالا صارخا للخلل الحاصل، ودليلا دامغا على تفشي الباطل.
وقد صدرت مؤخرا قرارات مدويّة صائبة جريئة اقتلعت مكامن الشرور في بعض القيادات التعليمية من الجذور، واقتادهم إلى المساءلة والتدقيق والتحقيق، ويؤمل أن يسدل ستار العدل عليهم في ظلام السجن الذي يستحقون، فهذه النتيجة وحدها هي التي تصلح الحال، وتردع المخطئ، وهي العقوبة التي تستلّ إساءة الأدب، وسخائم القلوب، وتعيد تعليم الفئة الضالة على “رحلاية” الصف الأول حب الوطن الصادق، والانتماء الحقيقي، وأبجديات الخُلق السوي، ويستعيد المظلومون الأمل بالأمن والعدل، فتهدأ نفوسهم، ويُشفى غليل الصدور.
لن يكفي استرداد الأموال المغصوبة المنهوبة من هذه الفئة المارقة، فلعل ما خفي من التجاوزات المالية أعظم كثيرا مما طفا على السطح وظهر، وإلا فكيف نفسر شراءهم لتلك العقارات الممتدة من أقاصي الجنوب إلى أطراف الشمال، وهذه السيارات الفارهة، والهواتف فوق الذكية، والاستثمار في المطاعم والمولات، وتوالي الرحلات الترفية الترفيهية، وجلسات الأنس والنجوى الشريرة، والتنعم برسوم الطلبة المساكين، وكدح وشقاء آبائهم البائسين، أو قطع أقوات الموظفين، أو إنهاء خدمات المدرسين، أو معاقبتهم لحسم مكافآتهم ثم جمع مزق أرواحهم وأرزاقهم لتصبّ في كروش الجشعين.
والقاصمة أنهم كانوا يمثلون ــ زيفا ــ واجهة التعليم والتربية والقيادة الألمعية والتصنيفات العالمية، والتصريحات العرمرمية عن الأنظمة والتعليمات والرؤى والتوجيهات والعدالة الوظيفية والقوانين الحذافيرية!!!
يا ويحكم، والله لقد ملأتم قلوبنا قيحا!!!
نقول : إنّ استرداد الأموال المنهوبة جيد، لكنه لا يكفي، فما ظهر من المنهوب ليس إلا قُبّعة أطاح بها الهواء عن رأس الفاسد، وبقي الرأس مُترعا بالشر، طافحا بالفساد الذي سمّم الأرواح وأعطب الأجساد. والأدلة على ذلك كثيرة. نجتزىء منها :
مدرس حصل على مرتبة الشرف الأولى في معظم مراحل دراسته، وبدأ الدوام في الجامعة منذ بدء رفع مداميكها الأولى، لا يعرف إلا الصدق في دوامه وانتظامه وعلاقاته وعلاماته والتزامه، زاهد في كل المناصب، يعفّ عن كل المكاسب، يعمل بصمت دون أيّ تصيّد لمصلحة شخصية، يتقدم بطلب ترقيته المستوفي لكل الشروط الطبيعية والتعجيزية، فُيردّ طلبه دون أيّ وجه حق، ودون إبداء أيّ سبب مقنع أو غير مقنع، وعندما يسأل عن سبب ردّ طلبه، ويطالب بحقه، يُستعدى عليه، وتؤذى نفسيته، ويُقتل انتماؤه ومعنويته، ويحاصر بعقوبات كيدية ظالمة تشوّه سمعته، وتغتال شخصيته. ولو أن تلك العقوبات كانت قد صدرت عن أسوياء أنقياء لصبرنا على مرتع الظلم وجمر الغضى، لكنها تصدر عن إناء ينضح بما فيه، تتجلى في أخلاقه ومسالكه ومجاريه الصورة المقلوبة لواقعنا الإداري البئيس، المضحوك منه والمبكي عليه.
تُردّ ترقية هذه المدرس، وتعاد إليه أوراقه النقية العلمية الموضوعية الراقية، بينما تمرّ بعض الأوراق الشائهة المزيفة المسروقة التافهة على خط ” إخراج ” سريع يليق لها، ويجري بها مهرولا نحو مستقرها، لأن صاحبها رضي أن يكون ظلا ذليلا، أو منافقا مقيتا، أو عضو لجنة رخيص الذمة مستتر الضمير، أو مسؤولا قميئا يبصم بالحافر على كل مطلب لمعلمه، ليتوالى الصغار تباعا في الخيط الناظم للخزايا والصغائر.
هذا مشهد مختصر من ألف حكاية وحكاية، روتْها دموع المقهورين، وآهات المقموعين، وزفرات أنفاس الموتورين، فمن ينتقم لهم؟ ومن يستمع إليهم؟ ومن يرد اعتبارهم؟ بل من يعيد حياة من مات منهم مظلوما مقهورا؟ ومن يعيد التوازن النفسي إلى من نقلوه عسفا إلى أقصى الجنوب بسبب شبهة هم فعلوا ألف ألف مثلها؟ ومن يعيد حقوق المكتوين بنار الظلم؟ وإذا عادت إليهم بعض حقوقهم من يعيد أعمارهم الضائعة، وصحتهم المعتلة، ونفسياتهم المرهقة، وقلوبهم المتعبة، وأوقاتهم وأموالهم المستنزفة في أروقة المحاكم؟؟؟ من يعيد إليهم ثقتهم بوطنهم، وإيمانهم بوجود العدالة الوظيفية، وانتماءهم، ورغبتهم في الاستمرار بعملهم، وقدرتهم على النهوض بمهامّهم؟؟؟
من ينصف أسَرهم، ويعيد البسمة إلى أطفالهم، والهدوء إلى حياتهم، بعدما انسلخ من سنواتهم مترعين بيأسهم وإحباطهم، مثقلين بظلمهم وهمّهم؟؟؟
هل يكفي أن تسترد منهم الأموال المنهوبة؟
ألا يجدر ” على الأقل ” أن تُفتح ملفاتهم من بليّة الورقة الأولى إلى خزي الخاتمة ليُعرف : أين درسوا؟ ومن أين تخرجوا؟ وما شهاداتهم؟ وما أبحاثهم؟ وكيف كانت ترقياتهم؟ وما أخلاقهم؟ وما علاقاتهم؟ وما جناياتهم….؟
ونحن نعلم أن هذا الأمر عصيّ المنال، ويحتاج إلى فرق تحقيقية يصعب عدّها وإعدادها، وقد يستعان بهيئة الأمم المتحدة للنهوض بهذه المهمة المستعصية، لأن خطيئاتهم تفوق الحصر الواقعي، بل تتفوق على الخيال الجامح!!!
لكننا ــ حتما ــ سنصل إلى نتيجة أكيدة بأن بعضهم كان جناية حقيقية عظمى على العلم والتعليم، وأنّ مستواه الطبيعي لا يتجاوز أن يعمل في دكانة بمنطقة نائية يبيع الحفاظات ومصاصات الأطفال، مع الحرص على تخصيص موظفٍ نبيهٍ لمراقبته، ومحاسب أمين يُبعد يديه وعينيه عن الصندوق المتهالك، كي لا تستيقظ غريزة السطو لديه، فتلك شنشنة نعرفها من أخزم، وذنب أعوج لن يستقيم أبد الدهر، فمن شبّ على شيء شاب عليه.
التعليقات مغلقة.