74 عاماً على مجزرة دهمش وتهجير السواد الأعظم من أهالي اللد والرملة
تصادف اليوم، الثاني عشر من يوليو/تموز، الذكرى الرابعة والسبعين لاحتلال المدينتين الفلسطينيتين التوأمين اللد والرملة، وارتكاب مذبحة داخل مسجد دهمش بغية ترهيب الأهالي وتهجيرهم.
كان ذلك في الخامس من رمضان سنة 1368 للهجرة، الموافق الثاني عشر من تموز 1948 للميلاد، الساعة الحادية عشرة والنصف ظهراً. الصيف القائظ فرض نفسه بقوة على أجواء محمومة. يستذكر المؤرخ بروفيسور مصطفى كبها، في حديث لـ “القدس العربي”، أن مدينتي اللد والرملة تعرّضتا، في مثل هذا اليوم من عام النكبة، لموجة هجوم ثانية لقوات البالماح بقيادة اسحاق رابين، نائب قائد قوات البالماح في حينه، ضمن ما سمي خطة “داني”، وفي إطار ما عرف باسم “حرب الأيام العشرة “. كانت المدينتان (كان من المفروض أن تكونا ضمن حدود الدولة العربية ضمن قرار التقسيم) قد تعرّضتا لهجوم سابق جرى من خلاله تهجير معظم أهالي المدينيتن (بلغ عدد سكان المدينتين معاً في حينه نحو 42000 الف نسمة)، وقد أضيف لهم عشرات آلاف أخرى من سكان يافا وقراها، والذين كانوا قد لجأووا للّد والرملة عند سقوط يافا ومحيطها في منتصف أيار 1948 قبل سقوط اللد والرملة بشهرين.
في هجوم للجيش الأردني قُتل العديد من قوات البالماح، جاء رفاقهم في اليوم التالي وقد شحنوا بمشاعر الرغبة بالانتقام لرفاقهم، ولم يجدوا هدفاً أسهل من عشرات السكان المجتمعين في قاعة الصلاة لجامع دهمش.
عند مساء الحادي عشر من تموز قامت مدرعات تابعة للجيش العربي الأردني بهجوم معاكس استعادت فيه مواقع إستراتيجية في المدينتين لبضع ساعات، وقد قتل في هذا الهجوم العديد من أفراد قوات البالماح الذين جاء رفاقهم في اليوم التالي، وقد شحنوا بمشاعر الرغبة بالانتقام لرفاقهم، ولم يجدوا هدفاً أسهل من عشرات السكان المجتمعين في قاعة الصلاة لجامع دهمش، والذي كان قد أنشأه الحاج خليل دهمش في البلدة القديمة في اللد. ويضيف المؤرخ كبها: ” لم يشفع للصائمين صومهم، ولم يشفع لهم أنهم عزّل، وأن معظمهم كانوا من النساء والأطفال. في الجامع المغلق بلغت درجة الحرارة الأربعين درجة ونيّف، أدخل المهاجمون ( حسب شهادة بعضهم في مقابلات شفوية لاحقة) قنابل فراغية زلزلت عند انفجارها أركان البناء، وطوّحت بالجثث في كافة أرجائه وبعضها التصق بالجدران”.
ويوضح كبها أن هذا ما رواه على مسامعه المرحوم واصف أبو منة، في مقابلة معه في العام 2006. وقد وصف أبو منة ما رأت عيناه لثلاثة أيام بعد المجزرة الرهيبة، حين جيء به، وببعض الباقين في المدينة لسحب الجثث، التي كان معظمها قد تعفّن بعد ثلاثة أيام حارة في مكان مغلق، وتحميلها على عربة تمهيداً لنقلها للمقبرة ودفنها في قبر جماعي. كما يشير كبها لسماعه تفاصيل أخرى كثيرة من المرحوم عبد الحميد النقيب، وكان من الشباب الباقين الذين اقتيدوا إلى معسكرات الاعتقال وأعمال السخرة لمدة عام ونيف، وهناك تمّت مساومتهم على ترحيلهم. وحسب كبها، تتضارب الروايات حول عدد ضحايا مجزرة جامع دهمش، ولكنها تتراوح بين 120 -136، كان معظمهم من سكان مدينة اللد، وبعضهم من سكان بعض القرى المحيطة باللد، وخاصة بيت نبالا ودير طريف، وبعض سكان ريف يافا.
شهادة فايق أبو منة
الشيخ الراحل فايق أبومنة (أبو وديع) من اللد لا يحتاج لاعترافات الصهيونية، فذاكرته كانت تختزن ما شاهدته عيناه وسمعته أذناه من مشاهد تقشعر لها الأبدان، وبسببها وبعد قراءة «أولاد الغيتو» لالياس خوري يمكن القول إن الواقع فعلا يتفوق على الخيال أحياناً.
بقلب مكلوم داخل منزله في اللد استعاد الذكريات المرة فقال لـ «القدس العربي» قبل سنوات: «كنا نقيم في حي الأوردة في اللد، وأصلنا من الرملة. كان في اللجنة القومية شخصيات من دار كيالي والحسيني والهنيدي والعلمي ودهمش وشموط… كنت أشارك في الحراسة مع بندقيتي بجوار بناية البلدية في مركز البلد بدلاً من خالي عطا الله». كما قال أبو وديع أن نحو 40 نفراً من أقربائه من اللد والرملة ويافا أقاموا داخل غرفتين ونصبوا خيمة في ساحتها، وبقوا فيها بعد احتلال المدينة، حتى داهم الجنود الإسرائيليون البيت وأخرجوهم عنوة، وألزموا الرجال بالعمل في تنظيفات. وتابع: «تركنا في البيت مع بعض النساء المسنات وسط بكائهن وبكائنا، فما في اليد حيلة فتركناهن ونحن نبكي أيضاً. كانت دوريات عسكرية تلف شوارع اللد بعد سقوطها وتدعو عبر مكبرات الصوت إلى مغادرة البلد وبالعربية: علشان ما يصيبكم ما أصاب من ذبحوا في مسجد دهمش..». وقال إن الجنود الصهاينة دخلوا من جهة الشرق وأمروا منادي المدينة خميس كركر بدعوة الناس إلى عدم التجول ثم الانتقال إلى وسط المدينة. وتابع «وفي ذاك اليوم أذكر قصة صبية عمرها 19 سنة وهي من جيرانا كانت تزوجت قبل عام ولها طفلة. أغلق اليهود عليها الباب في منزل مجاور واغتصبوها واحدا تلو الآخر فأصيبت بالجنون فخرجت مسرعة هاربة ملتحقة بالناس في منطقة مسجد دهمش. أذكر اسمها لكن أفضل بقاء هويتها محجوبة».
كانت دوريات عسكرية تلف شوارع اللد بعد سقوطها، وتدعو عبر مكبرات الصوت إلى مغادرة البلد وبالعربية: علشان ما يصيبكم ما أصاب من ذبحوا في مسجد دهمش.
العمل بالسخرة
وأوضح أنه عند مدخل مسجد دهمش سجّل الإسرائيليون أسماء الشباب، وأخرجوا النساء والأطفال وأدخلوا العشرات إلى المسجد، ويتابع «ذهبنا كي يشملنا التسجيل. اعتقل الجنود الإسرائيليون الشبان منا، وأجبروا البقية على ركوب السيارات والدواب ومغادرة المدينة نحو الشرق باتجاه رام الله. بالصدفة مرت سيارة عسكرية فسألني جندي من ركابها، وكان يعرفني فقد اشتغلنا معا في المطار بالماتورات، فقال: ما أنتم فاعلون؟ وأين عمّك جميل أبو فؤاد؟ وين أخوك؟ وعندها طلب مني أروح لاستدعائهم، وفعلاً تم ذلك، وصار عمي يشتم اليهود قدام الضابط غينسبرج. فأعطونا ورقة بالعبرية، وطلبوا منا أن نعلّقها على باب بيتنا، وصاروا يخرجوننا إلى الشغل في التنظيف».
ويروي أبو وديع أن الجيش الإسرائيلي اقتاده من بيته بعد أسبوع، مع عشرة شبان عرب آخرين، منهم شقيقه خليل وابن عمّه أنطون أبو كامل الزين إلى مسجد دهمش. وأضاف: «كانت الدنيا صيف. ما أن وصلنا روّعنا مشهد غير إنساني لم أتخيله في أفظع كوابيسي. كانت هناك حوالي 70 جثة مكدسة داخل غرفة بجنبات صحن المسجد، وكانت جدرانها ملطخة بالدم، والأرض بركة دم وعلامات الرصاص بادية في كل الجدران. كانت رائحة الجثث المتعفنة ملأت الفضاء، ولما دخلنا الغرفة من جهة اليمين ذهلنا لمشاهدة كمية هائلة من جثث الناس الذين حشروا في غرفة ورموا بالنار».
وفيما كانت زوجته تصغي بخشوع، استرسل أبو وديع في فتح صناديق ذاكرته فتابع: «الضحايا كانوا من الرجال، عدا سيدة ارتدت لباساً فلاحياً، بجانبها طفلتان في السابعة من العمر من القرى المجاورة. كنا نرفع الجثث على أكياس من الخيش، وأحياناً كان ينسلخ اللحم عن العظم، ولم نتمكّن من التعرّف على أحد، لأن الوجوه كانت منتفخة».
شرار الغضب
على عكازه، وبعينين تطاير الشرر منهما بعدما أجّجتهما الذكريات الساخنة، وقف أبو منة قبالة مكان إضرام النار بالجثث داخل مقبرة اللد الإسلامية التي اصطحبناه إليها. استذكر بأسى وحسرة، فقال: «تم نقل الجثث بتعليمات الجيش إلى المقبرة بالسيارات، وكان الجنود الصهاينة منعونا من دفن الجثامين، وأجبرونا على حرقها عدا جثث السيدة والطفلتين التي تم دفنها في قبر جماعي في الركن الشمالي الشرقي للمقبرة. جمعنا الأخشاب والأعشاب اليابسة في المقبرة، وأمرونا بجلب القماش والملابس من المنازل المجاورة وتكديسها على الجثث. أذكر أنه، وخلال بحثنا في المنازل المهجرة عن كل ما هو قابل للاشتعال، وجدنا بدلة عروس أيضاً بدت جديدة، ولم ترتديها صاحبتها بعد. بلّلنا الجثث بالكاز وأضرمنا النار بها بعد أن “نظفنا” ملابس الموتى من الأدوات البسيطة كالسكاكين الصغيرة والفلوس والخواتم التي كانت معهم، والتي أخذها الجنود طبعاً، وما هي لحظات حتى ارتفعت ألسنة اللهب نحو 20 متراً».
كانت هناك حوالي 70 جثة مكدسة داخل غرفة بجنبات صحن المسجد، وكانت جدرانها ملطخة بالدم، والأرض بركة دم وعلامات الرصاص بادية في كل الجدران. كانت رائحة الجثث المتعفنة ملأت الفضاء، ولما دخلنا الغرفة من جهة اليمين ذهلنا لمشاهدة كمية هائلة من جثث الناس الذين حشروا في غرفة ورموا بالنار.
سورة الفاتحة
كما يروي أبو منة أنه تم بعد ذلك اقتيادهم إلى الاعتقال لسجن في منطقة إجليل على ساحل البحر شمال مدينة تل أبيب، وهناك سألهم أحد الجنود عمّا إذا كان واحد منهم يحفظ سورة الفاتحة، فقام صديقه أبو كامل الزين (صاحب مطعم في رام الله اليوم) وتلاها قبل إضرام النار بالجثث. واستذكر أنه سمع لاحقاً من بعض الجنود اليهود، ممن أقاموا في المدينة بعد سقوطها كيف أعدموا المواطنين في المسجد، وكيف رجعوا بعد دقائق معدودة من المذبحة، ونادوا بالعربية، وكأنهم عرب جاؤوا للنجدة: “هل هناك جرحى؟”. وتابع: «وقال الجندي إنه عندما نهض بعض الجرحى من بين أكوام الجثث حصدوهم بالنار ثانية».
وتابع أبو منة: «عندما أنهينا حرق الجثث أخذونا بالسيارات على الدار، ولم نجد ما نسدّ به جوعنا. اعتقلوا 33 شاباً من اللد في الفوج الأخير، وأنا معهم، وثبتوا السلاح على صدورنا. وكان يعقوب بطشون معتقلاً معنا في معسكر إجليل. وفي الأسر ولدت زوجته في أول يوم أسر، فسمّت الولد أسير، بناءً على طلبه قبل أن يعتقلوه: سمّوا زي ما أنا أسير. قال لها».
يقول أبو وديع إن رقمه في معتقل «إجليل» كان 7246، وإنه اشتغل في الحفريات ثلاثة شهور قبل نقله إلى صرفند ستة شهور، فيما بقي شقيقه الكبير أندراوس في «إجليل».-(وكالات)
التعليقات مغلقة.